البلاءات التي يواجهها الشعب الفلسطيني كثيرة ومتشعبة، بحيث تضعه وجها لوجه أمام احتلال وقح لا علاقة له بالقيم الانسانية واخلاقها.
كان واضحا وفاضحا الصمت العربي الرسمي والشعبي بعد المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في غزة. وكانت واضحة وفاضحة أيضا مواقف كل من بريطانيا والولايات المتحدة الاميركية تجاه قرار الادانة الذي قدمته دولة وساندته اكثرية دول مجلس الأمن الدولي.
وفوق هذا وذاك يجب أن نسجّل استهجاننا للتصريحات الأخيرة التي أدلى بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي لخصها بعبارة "هناك الكثير من المصالح التي نتقاسمها مع إسرائيل". هنا لا بد من سؤال: أي القضايا العربية أهم من الاحتلال الصهيوني فلسطين؟
وإن كان هناك حالة صراعية تخوضها إيران مع المملكة العربية، لما إسقاط الكيان الصهيوني من قائمة العداوت التي حددها صاحب السمو بثلاث: إيران والأخوان وداعش؟ هل تجاوزت المملكة مسألة العداء مع إسرائيل؟
المخيّب والمفجع في تصريح السيد بن سلمان تزامنه مع فاجعة مسيرة العودة التي ذهب ضحيتها سبعة عشر شهيدا.
وقبل أن نكمل لا بد من إدانة واضحة لموقف حركة حماس، المسؤولة قطعا عن الجريمة التي كادت أن تودي بحياة رئيس الوزراء الفلسطيني ورئيس جهاز المخابرات العامة أثناء حضورهما إلى غزة الشهر الماضي.
لماذا الادانة؟
كل الشواهد تدل على وجود مؤامرة في حيثيات العملية كلها، بدءًا من المكان، مرورا بالزمان، وصولا إلى إعدام الأخوين أبو خوصة- لاخفاء معالم الجريمة من أساسها. وهنا يظهر التساوق والربط بين الجريمة- حتى لو لم ينجح التفجير- وبين التصريحات الصادرة عن حماس حول استعدادها للحوار مع الولايات المتحدة الأميركية.
العجيب في الأمر تطوّع عدد من المحطات التلفزيونية باستضافة جوقة إعلاميي حماس الذين تموضعوا أمام شاشاتها ببراءةِ ووداعةٍ، كأنَّ المستهدف في الأمر حماس وليس الذين سقط عليهم فعل الاستهداف والغدر. من يسمعهم يكاد يلوم السيد الحمد الله على عدم مبادرته إلى تهنئة حماس بالسلامة، والاعتذار من قادتها بسبب تسرّعه في الظن والاتهام.
متى تكف حماس عن ادعائها بأنها النموذج المثالي للحكم، وبالتالي تتقدّم خطوة إلى الأمام على طريق المصالحة- لا المناورة؟
السيد خالد مشعل أبدع في مغازلة تركيا من خلال بلاغة نادرة في الحديث عن الخلافة العثمانية التي حكمت بلادنا ما ينوف على الأربعة قرون. كل ما أصاب بلادنا من تفكك وتخلّف تتحمّل مسؤوليته السلطنة العثمانية حصرا. فإذا كان الغزو المغولي لبغداد قد أطاح بثروات سلاطينها وأذاب الحبر من كتب مكتبة بغداد، فإن الغزو العثماني للشرق قاطبة قد أهلك الذاكرة وأطاح بالانسان قيمة وإرادة وأمنية. وإذا كان السيد مشعل العاشق لتلك الحقبة يحاول ربطها بنموذج حكم جماعته في غزة، فالرحمة عليكِ يا غزة ويا فلسطين.
ما من عاقل ثاقب البصيرة الوطنية إلا وحسد شعب فلسطين على رجل ذي إرادة الحاملين همَّ شعب وقضية لا مثيل لها في زمننا. ما من عاقل يعنيه بقاء شعلة الكفاح والنضال عالية مضيئة إلا ورفع القبعة لرجل المرحلة وقائدها محمود عباس.
إن القادة والزعماء في هذا الزمن قلّة، بل نادرة. وأمام ما تتعرّض له المنطقة من زلازل على مختلف الجهات والأصعدة، وإعادة تشكّل للمعسكرات والمواقع والمسارات التاريخية، حتى في فلسطين التي تشكّل رأس حربة قضايا وويلات المنطقة نرى من يعلن استعداده لمحاورة الرئيس الأميركي، إلا محمود عبّاس الذي أدار الدفة السياسية عكس المهرولين المرعوبين والمضروبين على رؤوسهم. ألا يعني الأمر شيئًا؟
ألم يتوقف البعض عند تصريحات نيكي هايلي وديفيد فريدمان- الأولى سفيرة البيت الأبيض في الأمم المتحدة والثاني سفيرها في إسرائيل ويسكن إحدى المغتصبات الفلسطينية؟
ألم يتوقف البعض عند ما يسمي صفقة العصر، التي روّج لها بعض العرب قبل الأميركان والصهاينة، والتي رفضها محمود عباس جملة وتفصيلا، وأعلن موتها في مهدها؟
الفارق بين هذا الرجل والآخرين بسيط، لكنه عميق جدا: مفهوم الوطنية والمواطنة، ومفهوم أبناء البلد والرعايا. أبناء المشروع الآخر ينطلقون من كون الشعب حطب مشروع، والجغرافيا بؤرة من مشروع، فيما مشروع محمود عباس ينطلق من شراكة أصلية وأصيلة مع الشعب، ومن إيقاظ إرادة الحياة فيه على قاعدة احترام التطلعات وترسيخ الأساس الذي تنهض عليه قيمة متوازية بين الشعب والجغرافيا.
من هنا كانت وقفة الرئيس محمود عباس في وجه ترامب وكورسه الصهيوني، ومن هنا كان حديثه عن ديفيد فريدمان الذي أماط اللثام عن "بحث عن بديل مستعد لتوقيع اتفاق تاريخي مع إسرائيل".
مبررات اللهو وادعاء الأولويات كثيرة الآن في منطقتنا، وليس سهلا أبدا في هذه الظروف العصيبة والقاهرة أن تبقى قضية فلسطين راسخة على المستوى الدولي وعلى مستوى أبناء الوطن الذين نافسوا الأساطير وتفوقوا على حكايات البطولة والتضحية منذ غابر الزمان.
القادم من الوقت ليس سهلا، بل قد نشهد ما هو أسوأ وأكثر قسوة من الظروف الحالية، فيما حيّز الأمان بات بيد الجيل الفلسطيني الحالي، فبات يعرف دوره جيدا ويجيد اشتقاق معادلات الراهن وفقا لمتطلباتها وبما ينسجم ومصلحة الشعب والقضية معا. والأهم في الأمر هو ذلك التناغم والتوازي بين القوى الحية في المقاومة الشعبية وقيادة هذه القوى من سلطة ومنظمة تحرير. ذلك التكامل افرزته التجربة الماضية إلى أن أخذ سياقه في تقاسم الأدوار بين السياسي والميداني، أو بين هذه القوى والحاضنة المعنوية المواكبة والمدوزنة للمسار في أكثر محطاته ومآلاته.
الأهم في الأمر هو ذلك الفكاك النسبي بين الحال العربية الراهنة وبين الابتكارات اليومية لأشكال النضال الوطني الفلسطيني، بحيث لم تعد الحال العربية شديدة التأثير على الحال الفلسطيني كما كانت في السابق، ولم يعد الفلسطيني يشكو من حال "يا وحدنا" التي جرَّبها سابقا ولم يفلح رهانه على تبدلها. وحين يعتبر الاميركي والصهيوني أن الفلسطينيين يضيّعون الفرصة التاريخية للتسوية، فإنهم بذات الوقت باتوا مكشوفين للشعب الذي يدرك خبثهم جيدا مما يسهّل تكامل الأدوار النضالية الفلسطينية ويعرّي بعض المطبّلين لما سمّي صفقة القرن.
آري شابيط قال في هارتس ما لم يقله عرب وعجم عن الفلسطيني الذي لم يشبه أحدا في التاريخ. فهو ليس فقط لم ينسَ حقه في وطنه وحريته، إنما واجه أعتى وأخبث الأساليب الصهيونية الهادفة إلى تصفية القضية واستكمال تشتيته في أماكن لجوئه.
ليس ذلك فحسب، بل ألهمه واقع التمادي الاجرامي الصهيوني المدعوم من الادارة الاميركة على تجديد أساليب نضاله وتضحياته أمام كل مفصل أو مسار بما يبقي على القضية ألقها ويضفي عليها طابعًا حضاريا وبطوليا استثنائيا.
هي لعبة عض أصابع تاريخية لملحمة تأبى أن تختتم، يتواجه فيها الحق والباطل. الحق الذي لا يملك إلا صدره العاري وجسده المدمن على الجراح والشهادة، والباطل المدعوم بكل ما ابتكره العصر من أدوات للقتل والسحل والتدمير.
واثقون بأن الصدور العارية هي التي سوف تنتصر.