خاص- مجلة القدس- العدد 334 شباط 2017
تحقيق/ د.سامي إبراهيم

ملايين حبَّات الكبتاغون والفراولة ومئات الأطنان من حشيشة الكيف وغيرها، هي حصيلة مصادرات العام 2016 التي قام بها مكتب مكافحة المخدّرات المركزي في المديريّة العامّة لقوى الأمن الداخلي اللبناني. هذه الأرقام ارتفعت بنسبة 23% مقارنة بالعام 2015، الأمر الذي دفع السلطات اللبنانية إلى دقِّ ناقوس الخطر بعد أن غزت المخدّرات جميع شرائح المجتمع ومختلف الأعمار حتى وصل الأمر إلى توزيعها على أبواب المدارس وفي الجامعات.
غير أنَّ هذه الظاهرة التي غزَت المجتمع اللبناني لم تكن بعيدةً عن المجتمع الفلسطيني -الذي يؤثِّر ويتأثَّر بالجوار اللبناني- ما استدعى القيام بتحرُّك شعبي وأمني في المخيّمات الفلسطينية، ولا سيما في شاتيلا، في محاولة لوقف هذه الآفة الغريبة عن المجتمع الفلسطيني. فكان التحرُّك الشعبي الأول من نوعه لتوقيف تُجّار المخدّرات في المخيَّم.


شاتيلا بين الماضي والحاضر
لا يُخفي أحد العارفين بخبايا المخيم أنَّ المخدّرات بدأت بالظهور في المخيّمات الفلسطينية منذ العام 1985، ولكنَّها كانت محصورة بعدد محدود من المتعاطين، وبحسب المصدر كان المتعاطي منبوذاً من المجتمع الفلسطيني حتى يُصلِح أمره ويُقلِع عن تعاطي المخدّرات. ويؤكِّد المصدر أنَّ المخدّرات بدأت في الانتشار في مخيّمات بيروت مع انسحاب "م.ت.ف" وحركة "فتح" وانحسار عملها الأمني والسياسي في بيروت، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لتُجَّار المخدّرات لبثِّ سمومهم في المجتمع الفلسطيني.
ويشدِّد المصدر على أنَّ تجارة المخدّرات لم تبدأ في مخيّم شاتيلا إنَّما في المناطق المحاذية لمخيّم برج البراجنة، وهي منطقة تتداخل فيها المناطق اللبنانية بتلك التابعة للمخيّم. لكنّ إصرار حركة "فتح" وبعض الفاعلين في فصائل الثورة الفلسطينية على تطهير المناطق المحاذية لمخيّم برج البراجنة دفعَ بتجار السموم إلى التواري عن الأنظار لفترة محدودة ريثما يجدون بقعةً جديدةً لممارسة أعمالهم.
وبحسب المصدر فإنَّ خيار تُجّار المخدّرات وقع على بقعة جغرافية تشبه إلى حد كبير المناطق المحاذية لمخيّم برج البراجنة وهي المناطق المحاذية لمخيّم شاتيلا، ومنها انطلقوا بتجارتهم غير المشروعة، وبقيت هذه التجارة في تصاعد حتى وصلت الوقاحة بمروّجي المخدّرات إلى بيعها في العلن وبتغطية من بعض المستفيدين في بعض التنظيمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية على حد سواء.
ستار طائفي- مناطقي لترويج المخدّرات
يروي محمود (اسم مستعار)، وهو أحد كوادر حركة "فتح" في مخيّم شاتيلا ،كيف استفاد تُجّار المخدّرات من المناطق المحيطة بمخيّم شاتيلا، وهو الذي يعمل على رصد ومتابعة الشّقق السكنية التي استأجرها هؤلاء للترويج لتجارتهم. وبحسب محمود استطاع تُجّار المخدّرات الإيقاع ببعض أبناء المخيّم العاطلين من العمل ليُصبحوا مروِّجين، فابن المخيّم العاطل عن العمل لا يسعه له إلّا أن ينجرَّ وراء تجارة الممنوعات وذلك لسهولة المكسب فيها.
ويؤكِّد محمود أنَّ المستفيد الأول من تجارة المخدّرات هم تُجّار المخدّرات اللبنانيون، وليسوا هم المروّجين الفلسطينيين، ويفنِّد ذلك بالإشارة إلى أنَّ التّجار أوجدوا لأنفسهم موطئ قَدَمٍ في المخيّم وملاذاً آمناً يمكنُهم الهرب إليه عند حصول مداهمات من القوى الأمنية اللبنانية.
من متعاطٍ إلى مدمن ومروِّج
كلام محمود يؤكدّه علي (اسم مستعار)، أحد مروّجي المخدّرات، وهو الذي وافق على الحديث إلى مجلّة "القدس" شريطة عدم الكشف عن اسمه، إذ لم يكن إقناعه بالحديث بالأمر السهل، وبعد عدد من محاولات التملُّص قَبِلَ دعوتنا إلى المقابلة بعد إعطائه الضمانات بعدم الكشف عن اسمه.
علي، الشاب العشريني من أبناء مخيّم شاتيلا، ترعرع على أطراف المخيّم، وهو كان شاهداً على التحوُّل الذي طرأ على أطراف المخيم، وكيف أصبحت المناطق المحاذية للمخيم مركزاً لترويج المخدّرات. ويرى علي أنَّ حظَّه العاثر جعله يُولد على أطراف المخيم، وهو بذلك كان أكثر عرضةً للاحتكاك بالجانب اللبناني ما جعله يتعاطى المخدّرات في سن السابعة عشرة تماشياً مع أقرانه في الجوار.
يستذكر علي المرة الأولى التي تعاطى فيها المخدّرات مع صديق من الجانب اللبناني، ويقول: "كان الشاب اللبناني "حسن م." كثير التردُّد إلى أطراف المخيّم، وشاءت الصدف أن تنشأ بيننا صحبة، وفي إحدى المرّات عرضَ علي سيجارة حشيش"، ويتابع: "بادئ الأمر تردَّدتُ، ولكن مع إصراره رضخت، وبدأتُ أتعاطى حشيشة الكيف معه". ولا يُخفي علي أنَّ الأمور تطوّرت معه فبعدما كان يتعاطى الحشيش بدأ يتعاطى الحبوب المخدّرة، ومنذ تلك اللحظة بدأ الإدمان.
ويعزو سبب انحرافه واتجاهه نحو المخدّرات إلى قلَّة العمل، إذ يقول: "الأمر يدفعك إلى الجنون، أن تبحث عن عمل دون إيجاد فرصة واحدة، فتحاول الهروب من الواقع المرير واللجوء إلى المخدّرات. وهنا تتطوَّر الأمور فتصبح مدمناً، ومن بعدها تجد نفسك تعمل على ترويج المخدّرات حتى تستطيع الحصول على المخدّر".
لكن علي يصر على أنَّه مروّج ولا يمكن وصفه بالتاجر، ففي المخيّم لا وجود لمعامل المخدّرات ولا وجود للأراضي الزراعية، وبذلك لا يمكن وصف المخيّم بأنه ملاذ آمنٌ لتُجّار المخدّرات إنّما هو مكان يستخدمه تُجّار المخدّرات لترويج سمومهم.
مرضى لا مدمنون
يعتبر مازن (اسم مستعار)، الذي بدأ بتعاطي المخدّرات في سن الرابعة عشرة تماشياً مع أقرانه في المنطقة، نفسه متعاطياً للمخدرات لا مُدمناً، ويؤكّد أنه يبدأ بتعاطي المخدّرات فور الانتهاء من عمله، ويرى أنَّه من الممكن أن يصبح مدمناً إذا لم يجد عملاً، وتلقائيًا قد يتحوَّل إلى مروّج للمخدّرات.
ولا يجد مازن عيباً في تعاطي المخدّرات، إنّما يرى أنَّ المحظور يقع عندما يتحوّل المرء من متعاطٍ إلى مدمن، وهنا يصبح عرضةً لأن يتحوّل فريسةً لتُجّار المخدّرات، ولكنّه يؤكّد أنَّ الواقع المخترَق في مخيّم شاتيلا يجعله عرضةً للتعاطي. فالمخيّم مخروق من الجوار اللبناني من الأطراف كافةً الأمر الذي يجعل إيقاف الترويج في المخيّم أمراً شبه مستحيل. إلّا أنَّ مازن يشجب النظرة التي يُنظَر بها للمتعاطي في المخيّم، إذ يرى أنَّ الأوجب احتضانه واعتباره مريضاً يستحق العلاج عوضاً عن اعتباره مجرماً. ويؤكِّد مازن أنَّ غياب الدعم النفسي وفشل مراكز العلاج وغياب المشاريع التنموية في المخيّم كلها تؤدي إلى ازدياد عدد المدمنين بدلاً من وضع حدٍّ لهذه الظاهرة.
 ويجزم مازن أنَّ الحصول على المخدّرات سهل نسبياً في المخيم، وذلك بسبب التغطية الحزبية لبعض التُّجار يقابلها بعض المستفيدين من التنظيمات الفلسطينية، ويرى أنَّ غياب المحاسبة للمستفيدين في المخيّم من هذه الظاهرة يعطيهم جرأة أكبر للتجار للتمادي في الترويج لتجارتهم.
اللجان الأمنية والأمن الوطني الفلسطيني
كلام مازن وعلي لا ينفيه مسؤول قوات الأمن الوطني الفلسطيني في مخيَّم شاتيلا العقيد أحمد عودة إذ يرى أن بعض النكايات من بعض الفصائل الفلسطينية تؤدي في كثير من الأحيان إلى غياب المحاسبة، لكنّه في الوقت عينه يؤكِّد أنَّ الأمن الوطني الفلسطيني يضرب بيد من حديد كلّ مَن تسوِّل له نفسه العبث بأمن المخيّمات.
عودة الذي يشكو غياب التنسيق بين الفصائل الفلسطينية خصوصاً في ما يتعلَّق بموضوع المخدّرات يستشهد في ذلك بالحادثة الأخيرة حين تمَّ "توقيف عدد من المروِّجين في المخيّم وتسليمهم إلى أحد التنظيمات الفلسطينية تمهيداً لتسليمهم للأجهزة الأمنية اللبنانية، وما حدث بعدها من هروب أو "تهريب" هؤلاء من داخل السجن، ما شكَّل صدمةً لدى عدد كبير من التنظيمات الفلسطينية، وفتحَ الباب على مصراعيه للتجاذب السياسي بين أبناء البيت الواحد". لكن عودة ينفي تورُّط التنظيمات الفلسطينية على مستوى القيادات إنَما يوجِّه أصابع الاتهام لبعض الأفراد المستفيدين داخل هذه التنظيمات.
وبالنسبة لعودة فإنَّ آفة المخدّرات تطال الجميع ولا تستثني أحداً على المستويَين اللبناني والفلسطيني لكنَّه يدين مَن يرى أنَّ المخيَّم هو المسؤول عن تزويد الجوار بالمخدِّرات مؤكِّداً أنَّ العكس هو الصحيح، ويستدل على ذلك بالخريطة التي أفردَ لها مساحةً كاملةً في مكتبه عن جغرافيا مخيّم شاتيلا، إذ يعتبر أنَّ بؤر الترويج تقع على أطراف المخيّم كما هي مبيَّنة على الخريطة، وهي بذلك غير خاضعة لسلطة التنظيمات الفلسطينية إنَّما لسلطة الأحزاب اللبنانية المسيطرة على المنطقة.
غياب التنسيق في الجانب الفلسطيني ليس الأمر الوحيد الذي يشكو منه عودة  لدى حديثه عن المخدّرات إذ يرى أنَّ غياب التنسيق أيضاً مع الأجهزة الأمنية اللبنانية- في كثير من الأحيان - يؤدي إلى عرقلة عمل الأمن الوطني الفلسطيني، وهو في ذلك يناشد الأجهزة الأمنية اللبنانية زيادة التنسيق مع الجانب الفلسطيني لضبط الأمن في المخيم.
ويعتبر عودة أنَّ الفلسطينيين ضيوفٌ على الأرض اللبنانية، وهم بذلك تحت سلطة القانون اللبناني مشدِّداً على ضرورة اعتبار الأمن الوطني اليد الطولى للسلطات اللبنانية في المخيّمات الفلسطينية مع الحفاظ على الخصوصية الفلسطينية لما فيه مصلحة للطرفَين اللبناني والفلسطيني.
وبالنسبة لعودة فإنَّ مسألة التنسيق وإعطاء الغطاء السياسي والأمني لأفراد الأمن الوطني يشجِّع الجانب الفلسطيني على العمل أكثر على مختلف الأصعدة للحفاظ على أمن المخيم، إذ من غير المعقول أن يتم إصدار مذكرات توقيف وإطلاق نار بحق عناصر الأمن الوطني الفلسطيني في المداهمات التي يقومون بها لأوكار تجّار المخدّرات، وهو بالتحديد ما حصل في آخر مرة اشتبك فيها عناصر الأمن الوطني مع تُجَّار المخدّرات في المنطقة. لكن عودة لا ينفي أنَّ هناك تفهُّماً ووعوداً من الجانب اللبناني باسترداد هذه المذكرات.
يبقى الأمل في مخيّم شاتيلا
على الرغم من الظروف المعيشية الأمنية والاجتماعية الصعبة التي يعيشها أبناء مخيم شاتيلا إلا أنَّ الأمل يبقى معقوداً على اللجان الأهلية والمحلية في قدرتها على الانتفاضة على تُجَّار ومروجي المخدّرات في مخيم شاتيلا، ولعلَّ المظاهرات العفوية والانتفاضة الشعبية التي شهدها المخيّم مؤخّراً في وجه ظاهرة المخدّرات هي خير دليل على صلاح المجتمع الفلسطيني، وقدرته على رفض المخدّرات ومروجيها ومتعاطيها.