خاص مجلة القدس العدد 332 تشرين ثاني 2016
حوار /عدي غزاوي

بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات بأربع سنوات قرَّر الفلسطينيون تكريم قائدهم بإنشاء متحف يحملُ اسمه ويؤرِّخ تاريخ الشعب والقضية الفلسطينية من خلال حياة والد هذا الشعب. وقد كان العام 2016 عام افتتاح المتحف الذي بات صرحًا وطنيًا مهمّاً يقبع بجانب ضريح عرفات الذي صار مزاراً يأتيه الناس من كل صوب لقراءة الفاتحة لروح الشهيد محمد القدوة "أبو عمار".


فكرة المشروع ومراحل البناء
يوضح السفير د.أحمد صبح مدير عام مؤسّسة ياسر عرفات، وهي المؤسّسة المسؤولة عن متحف ياسر عرفات، لمجلة "القدس" أنَّ هذا المتحف أكبر مشروع خطَّطت له مؤسسة ياسر عرفات منذ إنشائها العام 2007، مضيفاً: "هدفُ هذه المؤسّسة هو حفظ الإرث الوطني لياسر عرفات، وتركه أمانةً بيَدِ الأجيال القادمة، وبالتالي قمنا خلال السنوات الماضية بجمع الأرشيف بأقسامه المختلفة من مقتنيات ووثائق ورسائل وقرارات وصُوُر وأفلام وفيديوهات، وهذا الأرشيف الضخم الذي تمَّ تجميعه من فلسطين والأردن وسوريا وتونس ومن مختلف دول العالم ليس بهدف أن نبقيه محفوظًا فقط، فياسر عرفات لا يحتاج إلى جهاز حاسوب تضع عليه المعلومات، ولا يحتاج إلى تمثال أو إلى مجموعة أحجار تسميها المتحف، ياسر عرفات كان قائداً من نوع آخر، إنّه مسيرة وطنية، وبالتالي أرشيفه ومتحفه ومؤسّسته إذا لم تعكس ذلك لا يكون هناك معنى لوجودها. لذا ونحن نبني المتحف كنا نجمع ما يجب أن يوضع بالمتحف ليتم تلمسه من خلال الزائر، لهذا وضعنا حجر الأساس لبناء المتحف خلف ضريح الشهيد مباشرة في المقاطعة عام 2008، بحضور سيادة الرئيس محمود عبّاس، وبين عامَي 2008 و2010 بدأنا بمرحلة التصميم والتجهيز للبناء، وقام بالتصميم واحد من أهم وأفضل مهندسينا المعماريين وهو جعفر طوقان رحمه الله، ابن شاعرنا الكبير إبراهيم طوقان، فهو الذي صمَّم الضريح نفسه والمسجد والمتحف ليصبح الثلاثة وما بينهما فضاء مفتوحاً للمواطن نُسمّيه فضاء ياسر عرفات. في العام 2010 بدأنا البناء، وبُنيَ المبنى الجديد بمساحة داخلية قدرها 2600 م2، واستغرق ذلك 4 سنوات لأنَّ بناء المتاحف وشكلها يختلف عن البناء العادي، وفي الـ2014 تسلّم معنا سيادة الرئيس عبّاس المباني وانتهت الأعمال الإنشائية ما بين الـ2014 والـ2016".
أهمُّ القصص التي يرويها المتحف
افتُتِح متحف الشهيد ياسر عرفات في 9/11/2016 بعد التوافق على التصميم وطريقة عرض المقتنيات والتقنيات المستخدَمة، وفُتِحَت جميع مرافقه أمام عموم الزائرين بما فيها غرفة أبو عمار الشخصية. وعن أهم القصص التي يرويها المتحف يقول د.صبح: "هذا المتحف هو متحف الذاكرة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، فيه سردٌ للحكاية وللرواية الفلسطينية، ويمثّل العلاقة الجدلية والأزلية بين الفلسطيني وأرضه وتاريخه بين العامَين 1900 و2004، إذ ينتهي التأريخ لدينا في المتحف باستشهاد الرئيس ياسر عرفات، وترى هذه الحقبة الزمنية المزدحمة بالأحداث والتحديات مقسّمة في المتحف إلى أربعة ممرات صاعدة للمشاة، بحيث أنَّ كل ممر يمثّل حقبة زمنية بين الـ1900 والـ2004، وفي كل حقبة زمنية محطات عديدة تقف عندها، وفي كل محطة يتم تعزيز الرواية التي تسمعها بالسماعات وأنت تمشي باللغة العربية والإنجليزية، بالإضافة لتعزيزها بالفيديو وبالوثائق وبالصورة وبالرسالة وبالمقتنى، وبالتالي تستطيع أن تبدأ من بداية المشروع الاستعماري الصهيوني بفلسطين، مروراً بالحرب العالمية الأولى، ووعد بلفور، وصك الانتداب، والثورات الشعبية الفلسطينية المتعاقبة في مواجهة موجات الهجرة الأجنبية إلى فلسطين، والتقسيم، والنكبة، واللجوء، وبدايات الثورة وانطلاقتها، وإنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، والمراحل التي عاشتها الثورة الفلسطينية بكل التحديات التي واجهتها إلى أن وصلنا إلى اتفاقية اوسلو، وعملية السلام، وبناء السلطة الوطنية الفلسطينية، ثُمَّ العودة إلى الوطن، ومراحل بناء السلطة، وحصار أبو عمار في رام الله واستشهاده، وعندما نصل إلى المرحلة الأخيرة من الممشى الرابع والأخير بهذا السرد التاريخي باستشهاد الرئيس ياسر عرفات نصل إلى جسر بنيناه حديثًا يربط المبنى الجديد بالمتحف الموجود بالمبنى القديم بالمقاطعة حيث يدخل الزائر مباشرة إلى الطابق الذي حُوصِر فيه ياسر عرفات 34 شهراً ليتلمّس في الداخل الظروف التي عاشها في الحصار، وهذا الجزء من المقاطعة هو جزء من المتحف، وكل مقتنيات أبو عمار في الحصار من غرفة نومه وأماكن حرسه إلى العيادة الصغيرة في غرفته وطاولة الاجتماعات هي جزء من المتحف، بمعنى أن الزائر والمواطن سيرى كل هذا بشكل سرد طبيعي، وفي كل هذه الفترة ستجد شاشات تلفاز تعرض عليك هذا الكلام أيضاً بالصُّوَر، كما ترى كيف كانت حياة الفلسطيني قبل وصول هذا الغزو الصهيوني إلى فلسطين حياة عادية ومتطوّرة إذا قارنتها بالإقليم. وسيجد الزائر أيضاً سيرة ياسر عرفات منذُ ولادته العام 1929، ويرى حوله أحداث الهجرة الصهيونية وثورة البراق وميلاد ياسر عرفات، وإذ بالجدار يفتح وتجد مجسّدًا للغرفة التي من الممكن أن يكون قد وُلد فيها ياسر عرفات، وبجانبها عقد زواج والده ووالدته وإبريق ماء ونوافذ، وحولها فيديوهات وصُوَر تشرح ذلك، وهكذا إلى أن ينتهي هذا السرد التاريخي. وبالتالي نحن نتحدّث عن متحف وطني يمثّل حكاية شعب وسيرة قائد، فلا أحد في تاريخ الشعب الفلسطيني القديم والحديث اختفت فيه الفروق وتماهت به الصفات مثل أبو عمار، فكل الناس كانت تشرب وتنام فيما كان أبو عمار يلغي كل شيء خاص به للصالح العام، وفي المتحف سترى ياسر عرفات كسيرة قائد وترى في نفس الوقت تاريخ الشعب الفلسطيني المعاصر بطريقة علمية سلسة مشروحةً بشكل دقيق".
التكنولوجيا والفن التشكيلي جزءٌ من المتحف
وعن التقنيات المستخدَمة في المتحف يقول د.صبح: "هذا المتحف يشكّل مادة تعليمية لأجيالنا الجديدة، لمدارسنا وطلابنا، فمع ثورة التقنيات الحديثة أصبح الهاتف النقال والحاسوب النقال جزءاً من حصة التاريخ وحصة الجغرافيا، وتتوفّر في المتحف العديد من التقنيات الحديثة الجديدة، فحين يضع الزائر السماعات على أُذنيه ويضغط على الفيديو رقم 1 مثلاً يستمع إلى خطاب ياسر عرفات في الأُمم المتحدة العام 1974، وهناك مجسّم كامل للجمعية العامة ونظارة أبو عمار التي استعملها في الـ1974، وقلم الحبر الذي استعمله، والنص الذي كتبه وقد وضع علامات عليه بقلم الحبر الأحمر وهو يقرأه، وبجانبه عددٌ من مجلة "نيويورك تايمز" لليوم الذي أعقب الخطاب حيث تتصدّر صفحته الأولى صورة ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 13/11/1974. فالمتحف يعطي فضاء تعليميًا تثقيفيًا ووطنيًا لجيلنا وللأجيال القادمة بالإضافة إلى وجود تقنيات أخرى حديثة في المتحف، سيرى الزائر في مدخل المتحف خارطة تفاعلية لفلسطين، وهي خارطة الكترونية على شاشة حاسوب كبيرة يستطيع أن يقف أمامها ما بين 6 إلى 10 أشخاص في نفس الوقت، وفيها كافة التجمعات الفلسطينية السكانية ما قبل الانتداب البريطاني لفلسطين، وبما أنّ الفلسطيني لديه غريزة أنه أول ما ينظر للخارطة يبحث عن بلده وقريته، ففي اللحظة التي يبحث فيها عن قريته ستفتح له نافذة الكترونية في الخارطة لتعرض له ما لدينا من معلومات عن قريته أو مدينته، سواء أكانت قد دُمّرت أو استُوطِنَت أو غير ذلك، أيضًا هناك جدارية فيها أهم الشخصيات الوطنية الفلسطينية التي أثَّرت في حياة فلسطين في القرن الماضي، رجالاً ونساء، من السياسيين والكُتّاب والصحفيين والشعراء والمبدعين ورجال الأعمال والثوار، وهناك 65 شخصية مكتوب على الجانب تاريخ ميلادهم وتاريخ استشهادهم وإن كانوا على قيد الحياة، ولكن في نفس الوقت إذا كان معك هاتف ذكي فإنَّ موظّفي الاستقبال سيعطونك ما يمكّنك من استخدام هاتفك على هذه الجدارية، فإذا ركّزت على صورة أحدهم سيعرض لك جهازك السيرة الذاتية له ويخبرك أنّه خليل الوزير من مواليد الرملة كمثال".
ويردف: "باختصار شديد هذا المتحف يمثّل إضافة نوعية للحياة الاجتماعية والوطنية والفلسطينية في هذا الظرف، وقد تطلّب إعداده وقتاً طويلاً إذ لم يكن سهلاً جمع هذه المواد المميّزة ليكون المتحف منارة ثقافيةً، لا سيما أنه يضم أيضاً مسرحاً صغيراً لتقديم كتب وأفلام، وهناك قاعة عروض متنقّلة لأهم رسّامينا وفنّانينا التشكيليين ليُقدّموا عروضاً متنقّلة، ونحن كنا سعداء لأنّ في مدخل المتحف رسومات للمرحوم إسماعيل شموط الذي رسم أفضل ما رسم عن فلسطين ولكنه لم يرسم من الأشخاص سوى ياسر عرفات. هذا ويضم المتحف أيضاً دكاناً فيه كل الذكريات من حطة وقميص وقلم وطاقية وفيلم إلى كتاب وكأس. هذا المتحف الذي افتتح أبوابه للجمهور حاليًا بدأ التفاعل معه، والحكم الحقيقي على هذا العمل هو المواطن، وقد رأينا في ذكرى استشهاد أبو عمار في 11/11 الزائرين يؤمون المتحف من عائلات وأطفال وكبار، ونشاهد في نهايات الأسبوع والعطل عدداً كبيراً من الناس الذين يأتون للضريح لقراءة الفاتحة لروح أبو عمار، والآن أصبح هناك مسجد له بين الضريح والمتحف، وكل هذا الفضاء مزدحم برموز موجودة في خدمة المواطن الفلسطيني".
ويتابع: "مَن يزور القبر سيرى عدة ميزات. أولاً أنَّ جثمان الرئيس أبو عمار رحمه الله موجود بصندوق حجري موجود في منتصف الغرفة التي بها الضريح ويمكن أن يُحمَل كما هو، وما يميّز الغرفة أن مقاسات طولها وعرضها وارتفاعها 11 متراً رمزيةً لتاريخ استشهاد أبو عمار، وحول الضريح هناك بركة من الماء، وتلك كانت فكرة التصميم الأصلي لجعفر طوقان أنَّ المياه وتموجها توحي بعدم الاستقرار في دلالةٍ على أنَّ الضريح مؤقت وأنَّ الضريح الثابت سيكون في القدس. ولكنَّ الأهم أنَّ المتحف نفسه ومحتوياته وطريقة عرض رواية الحق الفلسطيني تكتسب أهمية مطلقة اليوم ونحن نواجه الاستعمار الاستيطاني الذي يريد أن يفرض بالقوة ليس فقط احتلاله أو استيطانه بل روايته التاريخية أولاً، ومن هنا يأتي تقديمنا للرواية التاريخية الحقيقية العلمية واضحة المعالم لـمَن يريد أن يقرأ أو يسمع عن المواجهات وأصل الحكاية والصراع، فنحن نقدِّم رواية الحق ولا أحد يستطيع إنكارها من تاريخ وجغرافيا وشخوص، إذ ان وثيقة الاستقلال تحدثت عن العلاقة الأزلية بين الفلسطيني وأرضه وتاريخه، والمتحف جاء ليعرض الحقائق عن التاريخ والأرض والشخوص".
تجميع المقتنيات صعب لكنّنا نجحنا في جزء كبير
يشير د.أحمد صبح إلى أنَّ عملية أرشفة كل ما يتعلّق بالشهيد أبو عمار هي عملية مفتوحة لن تنتهي بفتح المتحف وبإنشاء المؤسسة، وعن أسباب صعوبة جمع مقتنيات الرئيس الشهيد يقول: "أحد الأسباب الرئيسة لذلك هي العاطفة التي تربط أبو عمار بكل إنسان تعايش معه، وأنا كنت أرى أبو عمار يتقبّل طلبات محرجة للغاية، فقد رأيتُ سيدات يطلبن حطته التي يرتديها فيطلب من الشبان أن يجلبوا له حطة أخرى ويعطي الناس حطته، وبالتالي من الصعب الوصول وأخذ هذه الأغراض التي لها قيمة عاطفية عند أبناء شعبنا، وقد أخذت عملية التجميع وقتًا وجهداً كبيرَين لإقناع عدد كبير من المصادر بأن أبو عمار لنا كلنا ودعنا نضع هذا المقتنى في مكان يستطيع أن يستفيد منه جموع الشعب، ونجحنا بهذا الكلام بإقناع العديدين، بالنسبة للصُوَر فبما أنَّ لدى الأغلبية صوراً لأبو عمار تصل إلى حد التوقير الكبير والقداسة في بعض الأحيان وتشمل صوراً يوم زواجه أو مع ابنته أو عندما وُلِدَ أو في الأعياد أو مع والده المريض أو صوراً شخصية معه، قلنا للناس شاركونا هذه الصُّوَر لأنَّ لها قيمةً وطنية، وإذا أعطيتمونا الصورة وأخبرتمونا بتفاصيلها فسنعيدها لكم أفضل من السابق خصوصًا أنه اليوم بالتقنيات الحديثة من الممكن تعديلها ببرنامج الـ(الفوتوشوب)، وإرجاعها أفضل مما كانت عليه. ولا يزال موضوع المقتنيات مفتوحاً، لكن يمكننا القول أنه لدينا الآن من المقتنيات المعروضة ما يعزّز الرواية وصدق الحكاية وصدق التاريخ، ولكن دعني أشير إلى أنَّنا حتى هذه اللحظة وبعد مرور 12 سنة على استشهاد أبو عمار، وبعد مرور أكثر من 9 سنوات على الانقسام لم نحصل على مقتنيات ياسر عرفات في غزة رغم كل الوعود من إخواننا في حماس، ولا أريد أن أُكثِر من الحديث في هذا الموضوع، ولكننا سنبقي الباب مفتوحاً فنحن لا نطالب بشيء شخصي لأحد ولا شيء عائد لأحد، بل نطالب بحق شعب في مقتنيات رئيسهم وهو مفجّر ثورة معاصرة، ونريد كمؤسسة ياسر عرفات أن نحصل على مقتنياته كما حصلنا عليها في كل مكان، بما فيها الشام والأردن والقاهرة وغيرها، فنحن المؤهلون بأن تكون المقتنيات محميّة بإشرافنا، ونأمل أن نتمكّن من الحصول عليها كونها الأكثر وضوحاً وهي مسجّلة ومدونٌ عليها أرقام ولها نُسَخ مطابقة في مكتب الرئيس وفي مؤسسة ياسر عرفات، ولكن للأسف الشديد تم اجتياح ذلك فلا هي موجودة في بيته ولا في مكتبه بغزة، وما عدا غزة نستطيع أن نقول أن مقتنيات ياسر عرفات وأرشيفه وما نحتاجه بشكل أساسي لدينا، ويبقى جمع الأرشيف باباً مفتوحا للصور والوثائق وغيره يمكن أن نجدها في يوم من الأيام أو يزوّدنا بها أحدهم كما يحصل دائماً، فالبعض عندما رأوا جدية العمل وأنَّ هناك متحفاً لضمِّ هذه المقتنيات قدَّموا ما لديهم من مقتنيات للمتحف، وهو ما نقدّره بشدة، ولا ننسى ما خاضه شعبنا وأبو عمار أكثر منا جميعاً من تحديات وحصارات وتنقلات، وبالتالي فلا بد أن يكون قد ترك هنا أو هناك شيئاً يخصه، وعبر مسيرة التسع سنوات من العمل، قدِم إلينا كثيرون ليسلمونا أشياء ثمينة وطنيًا نستفيد منها، ونحن نسجِّل لهم ذلك، ونؤرشفه".