افتتاحيّة مجلة القدس| العدد 349 لشهر آب 2018

إذا وضعنا أمامنا مجمل الخيارات المطروحة على طاولة البحث والنقاش، والتشريح، والضم والفصل، فإنَّ التجربة السابقة، وما ترتَّب عليها من خلاصات مؤلمة، وأثمانٍ باهظة، تفرض علينا أن يكون خيارنا المبدئي، والوطني، والسياسي، والمنطقي أن نعطي الأولوية لعملية المصالحة كخيارٍ فلسطيني يلبّي طموحاتنا الوطنية والشعبية والتاريخية، وهو الخيار الصَّلب الذي يوحِّد جسمنا الفلسطيني على اختلاف الانتماءات السياسية، ويجعلنا مؤهَّلين عمليّاً لخوض كفاحنا الثوري، وتحديد مساراتنا السياسية القادمة، وما يترتّب عليها من تفعيل الطاقات النضالية، والشبابية، والحراك الجماهيري لرفع منسوب المواجهة، والتحدي، والشمولية الوطنية في مختلف أماكن تواجدنا.
ونحن عندما نصرُّ على المصالحة، ونجيِّش كل جهودنا الإعلامية، والسياسية، والتعبوية، فلأنَّنا ندرك أنَّ هذا هو المدخل الحقيقي لحماية مسيرتنا النضالية، وتحقيق أهدافنا، وتجسيد وحدتنا الوطنية، ومحاربة كل عوامل التفرقة، والتجزئة، وزرع الفتنة داخل الصف الفلسطيني، وفي الوقت نفسه فإنَّنا نفرض احترامنا على كل أصدقائنا، وأشقائنا، وحلفائنا، طالما نحن ننتمي للقضية الفلسطينية التي هي القضية المركزية للأمة العربية.
لأنَّ الذي لا شك فيه هو أنَّه بعد ما حدث من انقلاب في قطاع غزة العام 2007 وعلى أثره تكرَّس الانقسام اختلفت وتراجعت جمالية ونقاوة القضية الوطنية الفلسطينية، وبدأت دول العالم تتعاطى معنا إمَّا بحزن، وألم، وشفقة على واقع التشرذم الجديد، وإمَّا للتدخّل في شؤوننا الداخلية لزيادة الشرخ، والتمزُّق الداخلي، والعبث بخياراتنا الوطنية، وطرفٌ ثالث اكتفى باللوم، والإرشاد، والنصيحة، وهذا ما يستطيعه. أمَّا الولايات المتحدة والاحتلال الصهيوني فقد وجدا في هذا الانقسام المرير الفرصة السانحة لشرذمة الساحة الفلسطينية، وممارسة كل أشكال الضغوطات لتركيع القيادة الفلسطينية حتى تستسلم لشروط العدو، وحتى ترضى بالشروط التي يضعها التحالف الأمريكي الإسرائيلي.
ونحن عندما نتحدَّث عن الانقسام الذي بدأ العام 2007 وهو المستمر منذ أحد عشر عاماً دون تراجع أو تردد، رغم الإيجابية المطلقة التي تمتَّعَ بها سيادة الرئيس أبو مازن ومعه القيادة الفلسطينية، ورغم كثرة الوسطاء، فإنَّنا ندرك أنَّ هناك إصرارًا من قيادة حركة "حماس" على حكم قطاع غزة مُنفردين لأهدافٍ هُم يدركونها، وبقيت هذه النظرة الجزئية هي التي تتحكَّم بالمسيرة الوطنية الفلسطينية، وبقيت هذه المسيرة تعاني من الوهَن، وانقسام القرار الفلسطيني، وهذا ما أثلج صدر الاحتلال.
إنَّ المصالحة الوطنية الفلسطينية هي المنقذ للوحدة الوطنية، وهي التي تُحصِّن الساحة الفلسطينية أمام السموم والرياح السياسية القاتلة التي تهبُّ على قضيتنا وشعبنا من كل جانب.
فالمخاطر بكاملها تهبُّ من الكيان الصهيوني الذي لا يستطيع أن يعيش وأن يستمر بوجود أُمّة عربية موحَّدة، أو بوجود شعب فلسطيني متماسك ومترابط تجمعه العقيدة الواحدة، والانتماء الواحد، والأهداف المشتركة . ولذلك فإنَّ مصلحة العدو الصهيوني منذ البداية ومازالت هي تمزيق الأُمّة العربية، وإغراقها في بحر من الصراعات السياسية، والدينية، والإثنية، وأيضاً لا يمكنه السيطرة على الشعب الفلسطيني والأرض الفلسطينية، وتدنيس المقدسات الفلسطينية إلَّا عندما يقسِّمُ صفَّنا، ويفرِّق كلمتنا، ويمُس عقائدنا، ويزرع الفتنة في داخلنا. فلماذا لا تكون المصالحةُ هي خيارنا الأول والأوحد؟ ولماذا نخاف من بعضنا أكثر ممَّا نخاف من عدونا؟
لقد جرَّبنا الانقسام أحد عشر عاماً، وكان شديد المرارة علينا وعلى شعبنا في قطاع غزة، وكان منغِّصاً لحياة وتفكير كل فلسطينيٍّ شريفٍ ومناضل همُّه تحريرُ الأرض، وحماية المقدسات، وتحقيق ثوابتنا الفلسطينية الاستراتيجية كباقي شعوب العالم، فلماذا اليوم لا نُجرِّبُ المصالحة، وأن نكون صفّاً واحداً وقلباً واحداً، ونحن جميعاً وقَّعنا على وثائق مدروسة ومُتفق عليها العام 2011 في شهر أيار، وأيضاً العام 2017، وكلاهما في القاهرة، ولماذا لا نتواضع أمام الحق؟ ولماذا لا نحتكم إلى الانتخابات في الضفة والقطاع كما فعلنا سابقاً؟ ففي العام 2006 فازت حركة "حماس" في المجلس التشريعي، وفاز الرئيس أبو مازن بالرئاسة، وهو الذي كلَّف السيد هنية بتشكيل الحكومة، وطلب من كافة الوزراء أن يُسلِّموا الوزارات للحكومة الجديدة .
ونحن لسنا الشعب الوحيد الذي خاض الانتخابات، لكننا نحن الشعب الوحيد الذي مازالت أرضه محتلة، وممنوعٌ عليه الاستقلال والحرية كباقي الشعوب، وهذا ما يريده العدو الصهيو أميركي، فلماذا نرضخ نحن لإرادة العدو؟
مطلوب منّا اليوم أن نزرع الابتسامةَ في قلوب أهلنا في قطاع غزة وفي الضفة الغربية، وأن تخرج الجماهير مُحتفلة بالمصالحة، والوحدة الوطنية التي تغيظ نتنياهو وترامب. ولا يجوز أن نُعطي الأولوية لصناعة الهدنة والتهدئة، والتي لا شك أنَّها سترسم الابتسامة على وجوه الصهاينة والمستوطنين، لأنَّهم سينامون الليل مطمئنين، مستقرّين على الأرض المباركة التي سرقوها ودنَّسوها، وأقاموا عليها الكيان الغاصب ونكَّلوا بأجدادنا، وآبائنا، وأمهاتنا، وقتلوا النساء والأطفال والمسنين في دير ياسين، والطنطورة، وكفر قاسم، والصفصاف، وصلحا، ومازالوا يرتكبون المجازر على امتداد أرضنا الفلسطينية .
صحيح أنَّ كلمة التهدئة أو الهدنة تعكس نوعاً من الاطمئنان في نفوس أهالي القطاع، الذين ذاقوا ويلات ثلاث حروب مدمِّرة، استفرد الصهاينة خلالها بالأطفال، والنساء الذين ليس لديهم ملجأ يأوون إليه من القصف الجوي، والبري، والبحري، وكان الشهداء بالآلاف، والجرحى بعشرات الآلاف، ويكفي الأهالي صدمات الرعب، وهدير الطائرات.
لاشك أنَّ قطاع غزة المعروف بعمق انتمائه الوطني، وبأنَّه الساحة التي شهدت جولات وصولات لروّاد الحركة الوطنية يرفضون إلَّا أن يكونوا جزءاً من الوطن الفلسطيني الكبير، وأنَّ ما يطمعون إليه هو أن يكونوا جنباً إلى جنب، وفي معركة واحدة، وأمام مصير واحد مع أهلهم في القدس والخليل ونابلس، وقلقيلية وبلعين، وقرية الخان الأحمر، لأنَّ الشعب الفلسطيني لا يسمح بتجزئة قضيته، فهو شعب ينشد الحرية والاستقلال، وطردَ الاحتلال خاصة من القدس ومقدّساتها العاصمة الأبدية للدولة الفلسطينية.
لذلك فإنَّ القضايا السياسية الجوهرية والمتعلّقة بجوهر الصراع ضد الاحتلال، لا يمكن تجزئتُها، وليس من حق طرف أن يقرِّر مصير جزء من الشعب الفلسطيني بعيداً عن القيادة الشرعية الفلسطينية لمنظمة التحرير الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وبغض النظر عن ثمن هذه التهدئة من مساعدات إنسانية، ومادية، وتسهيلات في الحركة برياً أو بحرياً، أو جوياً، فإن هذه بالأساس حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني، وكان الأوجب الضغط على العدو الإسرائيلي لرفع الحصار الذي فرضه على القطاع منذ العام 2007، والشعب ليس مسؤولاً عن نتائج التحولات السياسية التي أطاحت بالسلطة الوطنية وحكومتها في القطاع. لذلك ليس منطقياً أن نُكافئ الاحتلال بتقديم هدنة له في قطاع غزة مقابل أن يرفع الحصار عن القطاع، ومقابل عدم طرح موضوح الأسلحة التابعة لحركة "حماس" والفصائل في القطاع.
ولعلَّ الأخطر في الموضوع وليس من باب التخوين، ولكن من زاوية توضيح أين تكمن مصلحتنا الوطنية، وما هي طبيعة وأبعاد ما يجري:
أولاً: ليس من حق أي تنظيم عقد اتفاقات مع العدو الإسرائيلي، لأنَّ ذلك من حق المجموع المتمثِّل في قيادة "م.ت.ف" الشرعية.
ثانيًاً: في الوقت الذي أعلنت قيادة "م.ت.ف" الشرعية رفض صفقة القرن جملة وتفصيلاً، وقاطعت الولايات المتحدة، وأوقفت مفاوضاتها مع الجانب الإسرائيلي منذ العام 2014، تأتي جهة فلسطينية، وبشكل منفرد لتُجري مفاوضات من أجل عقد هدنة مع الاحتلال.
ثالثاً: إنَّ هذا العنوان الذي اعتمدته قيادة "حماس" بالدخول في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي وبرعاية إقليمية ودولية، فتحَ شهية العديد من الأطراف للانقضاض على المشروع الوطني الفلسطيني، والعمل على تقاسم المكاسب السياسية، والمصلحية، والاحتلال كان هو الرابح الأول، وذلك كله على حساب القرار الوطني الرافض لصفقة القرن ولمجمل المشروع الأمريكي.
شئنا أو أبينا، جاءت مفاوضات التهدئة مع طرف فلسطيني، بعيداً عن الشرعية الوطنية، لتُحدث خرقاً في جدار الرفض الفلسطيني لصفقة القرن، وبالتالي منح هذه الصفقة جرعةًّ من الحياة، بعد أن وصلت إلى الحائط المسدود، وهذا ما ساعدَ في استكمال تدمير ما تبقّى من المشروع الوطني.
إنَّ إجراء مفاوضات من جانب طرف فلسطيني بعينه مع الاحتلال رسالة واضحة بأنه يوجد مشروعان فلسطينيان وليس مشروعاً واحداً، وهذا ما يطمئن له نتنياهو.
كما أنَّ الإعلان عن مشروع آخر، يًسهِّل على الاحتلال دوره في التلاعب على المشروعين، وزيادة الفتنة الداخلية، والهروب من القضايا الجوهرية والأساسية وهي الثوابت الوطنية، والتركيز على القضايا الإنسانية والمعيشية.
لا شك أنَّ الاحتلال يشعر بالسعادة، لأنَّه يفاوض طرفاً فلسطينياً بعيداً عن القيادة الشرعية الوطنية. وهذا تعبير عن أن الوطن أصبح وطنَين، والقرار أصبح قرارَين.
إنَّ الاتفاق على قضية هامشية كالتهدئة، والتهليل لها يغطي على تجاهل العدو للقضايا الأساسية الجوهرية الملحَّة والمتعلّقة بمصير شعبنا.
لو صدقت النوايا، وأنجزنا المصالحة الوطنية أولاً، لكان بالإمكان أن نفرض برنامجنا كأصحاب أرض محتلة، وكشعب موحَّد تمثّله منظمة التحرير الفلسطينية، ولحشرنا عدونا في زاوية الاعتراف بحقوقنا أمام كل العالم الحر، وأنَّ شعبنا ليس عاقراً، وليس متعطّشاً إلى هدنة مجانية، وإنَّما هو متعطّش إلى مقاومة الاحتلال سواء في الضفة الغربية، أو في قطاع غزة، وفي كل مناطق تواجد شعبنا فهو شعب التضحيات، والأسرى، والشهداء.