تاريخيًّا كانت جبهة الثقافة الوطنية مفتوحة على مصرعيها لمواجهة المشروع الكولونيالي الصهيوني وقاعدته المادية، دولة إسرائيل. ولم ينكفئ المثقف الوطني للحظة في الدفاع المستميت عن الرواية والهوية والأهداف الوطنية الفلسطينية، لا بل كل يوم يزداد إصرارًا في الذود عنها، ورافضًا أيَّة تنازلات تمس بها من قريب أو بعيد.

ورغم أنَّ القيادة السياسية سعت لتحقيق برنامج الإجماع الوطني، المتمثل بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من حزيران 1967، وضمان حق العودة للاجئين على أساس القرار الدولي 194، وحق تقرير المصير للشَّعب الفلسطيني على ترابه الوطني، وضمان المساواة لأبناء الشَّعب الفلسطيني في الجليل والمثلث والنقب ومدن السَّاحل، إلّا أنَّ حملة راية الثقافة الوطنية لم يتزحزحوا قيد أنملة عن الحقوق والمصالح الوطنية العليا للشَّعب الفلسطيني، وتخندقوا في مواقعهم المتقدمة ببسالة نادرة حتَّى اللحظة دفاعًا عنها، إيمانًا منهم بأنَّ المستقبل سينتصر لعدالة قضيتهم، مع إدراكهم العميق أنَّ الهجمة الاستعمارية، والشروط الموضوعية على مدار عقود الصراع السبعة الماضية تناصبهم العداء، وتقف حجر عثرة أمام بلوغ الأهداف الوطنية نتيجة العوامل المعقدة ذات الصلة بالصراع. وعليه فإنَّ الجبهة الثقافية الوطنية مازالت تشكِّل الرافعة الأهم والأساسية في التصدي للحرب الصهيونية والأميركية ومن لف لفهم من عرب وعجم.

ولإدراك معسكر الأعداء خطورة هذه الجبهة منذ البداية، سعت دولة الاستعمار الإسرائيلية وحلفاؤها لكيّ وعي ممثلي هذه الجبهة بالاغتيال، وتزييف الرواية من خلال إيجاد رواية نقيضة مفبركة ووهمية، واغتصاب التاريخ والتراث والفنون وتغيير أسماء الأماكن والمأكولات الوطنية، وليس الأرض فقط، وخلق ثقافة بديلة لنفي الحقائق التاريخية المؤكَّدة على أحقية الشَّعب الفلسطيني في أرض وطنه. كما لجأت لتدعيم خيارها وروايتها المتناقضة مع الواقع القائم لسن سلسلة متواصلة من القوانين العنصرية، كان آخرها "قانون الأساس القومية" العنصري، ولجوؤها لتدمير المؤسسات الثقافية في الوطن الفلسطيني وخاصة في قطاع غزة، حيث قامت في ال14 من تموز الماضي بتدمير دار الكتب الوطنية، ومعها قرية الحرف والتراث في أرض الكتيبة، وأول أمس قامت بقصف وتدمير مركز المسحال الثقافي، الذي يحتوي أيضًا مؤسسة الجالية المصرية في فلسطين، مستغلة التصعيد، الذي حصل في اليومين الماضيين. فضلاً عن إدعائها استخدام أجهزة حماس الأمنية للمركز كذريعة لتبرير جريمتها البشعة ضد الصروح الثقافية.

ولم يأتِ هذا الاستهداف بالصدفة، حيث تلازم ذلك مع الذكرى العاشرة لرحيل رمز الثقافة الوطنية، الشاعر الفلسطيني والعربي الكبير محمود درويش. وكأنَّها بجريمتها الجديدة، والتي لن تكون الأخيرة، شاءت أن تقول لرواد الثقافة الوطنية، مات رمز ثقافتكم قبل عقد مضى، وعلى ثقافتكم أن "تموت"، ولن نبقي لكم مركزًا أو مؤسسة أو رمزًا تحتفوا به، ولن نسمح بوجود منابر ثقافية تنتج وتدافع عن روايتكم، وسنخنق كل فعل ثقافي فلسطيني!

وتجاهل أولئك الإسرائيليون الاستعماريون أنَّ الشَّعب الفلسطيني، الذي عاش التشرد والضياع عقود سبعة، لم يتخلَ يومًا عن ثقافته الوطنية، حيث حمل كلّ فنان ريشته وقلمه وفنه التعبيري أو التشكيلي والأدبي الإبداعي مدافعًا عن الرواية الوطنية، وكانوا في الخندق المتقدم لإعادة الاعتبار لها في داخل الداخل، وفي الأراضي المحتلة عام 1967 وفي الشتات قبل ولادة ونشوء منظمة التحرير الفلسطينية 1964 وبعدها، ومع اشتعال الشرارة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة مطلع 1965 تعمق دور الثقافة الوطنية في كلّ التجمعات الفلسطينية. وبالتالي اغتيال رواد الثقافة، وتدمير المراكز والمؤسسات الثقافية، وسرقة التاريخ والتراث والموروث الشعبي الفلسطيني، وتغيير أسماء الأماكن وسن القوانين لن يغير من عناصر معادلة الصراع، ولن يفت في عضد المثقفين الوطنيين، وهم قادرون على مواصلة إنتاج إبداعاتهم وفنونهم المختلفة، وإعادة بناء ما تمَّ تدميره لإبقاء جذوة الثقافة مشتعلة في مواجهة الهجمة الاستعمارية.

ومع ذلك تملي الضرورة الوطنية بكل مؤسساتها ملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في كل المحافل والمنابر الأممية والإقليمية وحتَّى داخل دولة إسرائيل الاستعمارية:

أولاً: لفضحها وتعريتها، كدولة همجية وفاشية، لا تؤمن بحق الآخر السياسي والثقافي والقانوني.

ثانيًا: لفرض العقوبات عليها، وإلزامها بدفع التعويض عما دمرته.

ثالثًا: للعمل على محاكمة قياداتها السياسية والأمنية أمام المحاكم الأممية كمجرمي حرب.

رابعًا: لطردها من عضوية المؤسسات والهيئات الدولية.

الحرب مع إسرائيل وأميركا ومن يقف معهم طويلة وشرسة، ولن تتوقف ما لم ينتصر الحق والعدالة، وتتحقق الأهداف الوطنية التاريخية. وطالما واصل رواد الثقافة الوطنية التخندق في مواقع الدفاع عن القضية والرواية الوطنية، فإنَّ النصر لا محالة للشَّعب الفلسطيني شاء من شاء وأبى من أبى.