أتي لي بالأمس الاطلاع على مقالة للكاتب المصري أسامة سرايا، بعنوان "ما يخيفنا من صفقة القرن؟" لاحظت أن الكاتب جانب الصواب في أكثر من نقطة في مقالته، التي نشرها في صحيفة الأهرام أمس الأول. ودون تحميل مواقف الرجل خلفيات سلبية، وحرصًا على اعتماد الخلفيات الإيجابية، التي دفعته للكتابة في هذا الموضوع، ارتأيت نقاشه بمسؤولية وبهدوء لعلنا نصل إلى القواسم المشتركة.

أول الملاحظات غير الإيجابية، التي تثير التحفظ والاستغراب، قوله "أول أعداء الحق الفلسطيني، هم الفلسطينيون أنفسهم، الذين بعد سنوات كبيرة تحت الاحتلال أصبحوا لا يتصورون أنفسهم قادرين على هزيمة عدوهم؟؟!! وانا أسأل السيد أسامة، من قال له ذلك؟ وكيف استنتج هذا الموقف؟ وما هي معاييره لطرح هكذا رأي؟ وأنا أؤكد له ولكل من يتوافق معه، أنَّ الشعب والقيادة الفلسطينية لو لم يكونوا واثقين من هزيمة العدو الإسرائيلي، لما أعلنوا بالصوت العالي ومرات عدة رفضهم لصفقة القرن الترامبية. ولما استمروا في مواقع وخنادق الدفاع عن أهداف وثوابت المشروع الوطني، ولقبلوا بما يدعو إليه سرايا نفسه. وبالتالي التمسك بالحقوق والمصالح الوطنية العليا دليل قاطع على الإيمان الراسخ بهزيمة الاستعمار الإسرائيلي وشريكته الولايات المتحدة.

كما أنَّ القيادة والشَّعب الفلسطيني يعلمان، أن معركة المفاوضات، هي معركة صعبة ولا تقل احتدامًا عن المعارك العسكرية، ولهذا القيادة الفلسطينية عندما شعرت أنَّ حكومة نتنياهو تريد المفاوضات من أجل المفاوضات، رفضت الجلوس حول الطاولة، ولكنَّها لم ترفض المفاوضات الهادفة لبلوغ التسوية السياسية، ونادت القيادة، وما زالت تنادي للمرة الألف بالعودة لطاولة المفاوضات وفق رزنامة وأجندة وزمن محدد. لكن إسرائيل الاستعمارية ترفض ذلك جملة وتفصيلاً، وبناء على ذلك لم يعد مجديًا الجلوس منفردًا على طاولة المفاوضات، لأنَّه لا يوجد شريك إسرائيلي. إلَّا إذا شئت أن تبقى القيادة الفلسطينية تضحك على نفسها وعلى جماهير شعبها، وتخضع ذاتها لمشيئة القيادة الاستعمارية الإسرائيلية: التي تريد المفاوضات من أجل المفاوضات!

ويتابع سرايا في فقرة لاحقة القول "الفلسطينيون يعرفون أن كلّ أرضهم تحت الاحتلال منذ أكثر من نصف قرن، ولن يخسروا شيئًا في التفاوض، بل سيحرجون العالم وإسرائيل والمجتمع الدولي، ويضعونهم أمام أنفسهم". وكأن الأخ أسامة يدعو القيادة الفلسطينية للبقاء في غرفة المفاوضات إلى ما لا نهاية. وكأنَّ الهدف الفلسطيني، هو الجلوس في غرفة المفاوضات دون وجود شريك إسرائيلي، وليس تحقيق الأهداف الوطنية استنادًا إلى مرجعيات التسوية السياسية وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة؟ لماذا؟ وعلى أي أساس على الفلسطيني البقاء جالسًا منتظرًا رحمة الإسرائيلي للعودة إلى داخل غرفة المفاوضات، ودون استعداد لمناقشة أي قضية من قضايا الحل السياسي؟ وهل العالم بلغ مستوى من التقرير في العملية السياسية، حتَّى تراهن عليه القيادة الفلسطينية؟ هل بات العالم يملك القدرة على تجاوز الإدارة الأميركية وخياراتها؟ ومن قال إنَّ بقاء الفلسطيني داخل غرفة المفاوضات سيكون لصالحه، ويعود عليه بالنفع؟ ما هي المعايير السياسية، التي تتقارب مع ذلك؟ وما هي الحكمة من الارتهان لمنطق الاستعمار الإسرائيلي؟

ويتابع سرايا الاستنتاج الخاطئ، قائلاً: إنَّ عدم بقاء الفلسطينيين في غرف المفاوضات، سيجعل العالم يتهمهم برفض الحل والتسليم بالحقوق، وتأخير ذلك ضار بالفلسطينيين وقضيتهم، ويعطي عدوهم فرصة لتصفية القضية، وتحويل قضية اللاجئين المؤقتين إلى مواطنين دائمين، أينما كانوا". وسأبدأ من النهاية، مضى سبعون عامًا، ولم تتقادم قضية اللاجئين، وما زالت حية، ولن يصبح اللاجئ مواطنًا دائمًا، لأنه يحمل حقوقه في رأسه وعلى أكتافه ولن يتخلى عنها. وأعود لأؤكد للأخ أسامة ما قلناه لقادة إسرائيل: نعم سيموت الكبار، ولكن الصغار لن ينسوا أبدًا حقوق آبائهم وجدودهم، ولن يتخلوا عن ثابت من الثوابت الوطنية.

أمَّا تحميل المسؤولية، فأعتقد أنك تتابع المشهد جيدًا، لا يوجد أحد في العالم، ورغم العجز الفاقع لدور الأقطاب الدولية في تحمُّل مسؤولياتهم تجاه قضية العصر، يحمل الفلسطينيين المسؤولية عن الفشل، وإنما يتم تحميل الفشل لإسرائيل ومن يقف معها وخلفها، وخاصة الولايات المتحدة، والشاهد على ذلك قرارات الشرعية الدولية.

ويضيف الكاتب المصري، الذي دفع بصفقة القرن دفعًا بشكل غير منهجي في مقالته، عندما قال فورًا: "وهذا أخطر عدو لصفقة القرن، ونحن نريدها قبل المحتل، لأنَّها في مصلحتنا، وتأخيرها يؤثر على مستقبل القضية، والنتيجة المطلوبة حسب سرايا، هي: علينا الآن أن نذهب للمفاوضات متسلحين بالحق واثقين من الانتصار بلا انقسام ولا مزايدات". ينطبق على الكاتب العربي المقولة الصينية، التي تحذر الإنسان من حف قدمه على مقاس الحذاء. لأنَّه (سرايا) يطالب الشَّعب والقيادة الفلسطينية بحف قدميها وأهدافها على مقاس صفقة القرن والمشروع الاستعماري الصهيوني. ولا يعرف المرء لماذا؟ وعلى ماذا يجب على الفلسطينيين اغتنام الفرصة؟ وأي فرصة هذه؟ وما هي حدود تناسبها مع مرجعيات عملية السَّلام؟ وألم يبدأ بها الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس، وثمَّ نقل السفارة إلى القدس؟ وألم يقلص المساعدات لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، كخطوة على طريق تصفية قضية اللاجئين؟ وأليست هذه ملفات أساسية أو الأساسية في صفقة القرن والحل النهائي؟ ومن الذي يزاود؟ وهل الزمن زمن مزاودات أم زمن الدفاع عما تبقى لنا؟ وهل المطلوب من القيادة الفلسطينية أن تستجيب لمنطق أهل النظام العربي حتَّى يرضوا وترضى سيدتهم أميركا؟

هناك الكثير مما تمكن كتابته ردًا على ما جاء في مقالة الأخ أسامة سرايا. ولكن ساكتفي بما ورد، لأنَّ ما دعا له يتنافى مع أبسط الحقوق الوطنية الفلسطينية. ولا يستجيب لأبسط الثوابت، ولا يستجيب لخيار السَّلام الحقيقي والممكن، وفيه دعوة واضحة وصريحة للاستسلام لمشيئة العدو الإسرائيلي الأميركي ومن لف لفهم من العرب والعجم. لذا أتمنى من موقع الحرص على مكانة ودور الأخ أسامة كقامة إعلامية مهمة، إعادة النظر فيما كتب، وأن يراجع نفسه جيدًا، وأن يكف عن هكذا نصائح لا تخدم بالمحصلة سوى أعداء الشَّعب العربي الفلسطيني والأمة العربية.