كثير من الحركات والقوى السياسية تصاب بمرض العظمة، كما بعض الدول الصغيرة التي تحاول أن تلعب دوراً أكبر من حجمها في السياسة الدولية.

لقد عانت العديد من القوى السياسية والفصائل الفلسطينية من مرض العظمة واختصاصها بالصوابية، مسقطة ذلك عن غيرها من القوى والفصائل دون أن ينضج لديها معنى الوحدة الوطنية ومفهوم المصلحة الوطنية أو مفهوم المصلحة العامة، فتعلو لديها مصلحة الذات والأنا الحزبية الفصائلية، حين تعتقد أنَّ مصلحة الحزب أو الفصيل هي المصلحة الوطنية والمصلحة العامة، وبالتالي لا يمكن لديها تحقيق الثانية إلّا بتحقيق الأولى، وهنا يقع هذا الحزب أو الفصيل أو الجماعة في وهم يصعب علاجه حيث لا يرى في نفسه إلّا الصوابية والتنزيه عن الأخطاء ولا يرى في الآخر إلّا الضبابية والاعوجاج والأخطاء بل تصل إلى درجة تخوينه وتكفيره، ويسوق التبريرات الإيديولوجية والدينية للتغطية على هذه الحالة المرضية التي يعاني منها هذا التنظيم أو ذاك.

لقد عانت الحركة الوطنية الفلسطينية كثيراً من هذه التنظيمات على مدى نصف قرن مضى، بداية من قوى اليسار في بدايات انطلاق الثورة الفلسطينية وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية كإطار جبهوي جامع لقوى الشعب الفلسطيني على اختلاف أماكن تواجده، وما أن أدركت القوى القومية واليسارية والوطنية مفهوم التعدد والتنوع والتكامل للشعب الفلسطيني وبالتالي لحركته الوطنية المؤطرة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية حتى ظهرت الفصائل التي تأخذ من الدين شعارات لها، عبر عملية أدلجة قسرية للدين وبالتالي استخدامه كوسيلة ترويجية لذاتها من جهة وإضفاء طهرية وصوابية على ذاتها وتوجهاتها وأفعالها، رغم أنَّ الواقع والمسار الذي آلت إليه هذه الحركات كشف عن مدى التناقض بين واقعها وشعاراتها، إلَّا أنَّها لا زالت تصرّ على تميزها عن الآخرين في ساحة العمل الوطني وامتلاكها للصوابية والحقيقة وافتقاد الآخرين لمثل هذه الصوابية والنقاء، وتتمترس خلف هذه الأوهام محدثة أسوء انشقاق وانقسام قد يقود إلى انفصال أجزاء الوطن بعضها عن بعض، كما هو حاصل اليوم جراء سياسات ومواقف حركة حماس، لتشكل حالة ضاغطة على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية وأطره الشرعية سواء على مستوى سلطته الوطنية أو على مستوى منظمة التحرير الفلسطينية، معتقدة أنَّ سيطرتها على السلطة وعلى منظمة التحرير هو الحل، أو إسقاط السلطة ومنظمة التحرير الفلسطينية واستبدالهما بها، حتى تتحقق المصلحة الوطنية من خلال تسيدها وسيطرتها على الكل الفلسطيني وإلغاء التنوع والتعدد وإسقاط مبدأ التكامل الذي يسم أي حركة وطنية عبر التاريخ.

إنَّ مثل هذه الأوهام لم ينفع ولم يجدي معها الحوار على مدى ثلاثة عقود خلت للتخلي عن هذه الأوهام والاندماج في الحالة الوطنية كجزء مكمل ومتكامل مع الأجزاء والقوى والفصائل الأخرى، معتمدة على دعم تنظيم دولي عابر للدول والقارات وعلى دول إقليمية ذات أجندات خاصة تجد فرصة مناسبة للاستثمار في دعم هذه الفصائل والمواقف لتحقيق مصالح خاصة لها عبر إظهار قدرتها في التأثير في الشأن الوطني الفلسطيني وعلى حساب مستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، فتوفر الدعم المالي والسياسي والمعنوي لمثل هذه التشكيلات والفصائل.

لكن عبر مسيرة خمسة عقود من العمل السياسي والكفاح الوطني والمقاومة المسلحة والشعبية التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة المشروع الصهيوني وما حققته من إنجازات قد مكنها دائماً من تجاوز هذه القوى ذات الأجندات والارتباطات التي تقدم مصلحة الحزب أو الفصيل وتلك القوى على المصلحة الوطنية في محطات عديدة.

اليوم في ظل جملة من التغيرات والتحديات التي تواجه الحركة الوطنية واستمرار حالة الانقسام والتمترس كحركة حماس وبعض القوى في مواقع ومواقف تكريس الانقسام وإضعاف الحركة الوطنية وإطارها منظمة التحرير، لابد أن تفهم هذه الفصائل ومن يقف خلفها من أحزاب ودول، أنَّ منظمة التحرير عصية على الانكسار والاستبدال كما هي عصية على الاستئجار، وهي ليست عقاراً قابلاً للبيع أو التنازل، إنَّها حركة الشعب الفلسطيني وممثله الشرعي والوحيد، وإنَّ هذه الشرعية الوطنية والقومية والدولية التي تتمتع بها منظمة التحرير أقوى من أن تخلخلها أو تنسفها مواقف هذه القوى، وبعد أن منحت هذه القوى زمناً طويلاً للنضج، والتخلي عن ذاتيتها وفردانياتها، وارتباطاتها المضرة بالمصلحة الوطنية، لم يعد أمام منظمة التحرير سوى الإقلاع في مسيرة التحدي وإبقاء الأبواب مفتوحة للجميع للحاق بها ووضع حد لعامل الزمن الذي راهنت عليه تلك القوى لمدة زادت عن ثلاثين عاماً، فأصبح من الضروري ومن المحتم عقد المجلس الوطني الفلسطيني في دورة عادية تدعى لها جميع القوى، لاختيار هيئات قيادية جديدة وإقرار برنامج سياسي وكفاحي يتوافق ومتطلبات المرحلة، على طريق تحقيق الأهداف الوطنية في إطار البرنامج المرحلي الذي يستهدف إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967م وحل قضية اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.

بمثل هذا الموقف يتم مواجهة التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته وتسقط كافة المؤامرات التي تسعى للنيل من حقوقه ومستقبله وفي مقدمتها (صفقة القرن)، ومن المحزن أن تصطف الجبهة الشعبية إلى جانب قوى الظلام السياسي في معارضة انعقاد المجلس في دورة عادية وتعلن مقاطعتها له.

الكرة الآن في ملعب حركة حماس وبقية القوى والدول الداعمة لها كي تتخذ الموقف الصائب وتنخرط في المشاركة الوطنية وتشارك مع بقية القوى في الدورة العادية للمجلس الوطني حيث وجهت الدعوة إليها للمشاركة فيه والتي ستعقد في رام الله في 30 / نيسان الجاري، وتكون شريكاً أصيلاً للكل الوطني في بناء هياكله ومؤسساته الوطنية بعيداً عن فكرة الفردانية والبديل أو السيطرة والاستفراد واستبعاد الآخرين.