ستتقدم تركيا إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي، خلال الأسبوع الحالي بطلب رسمي للاعتراض على قانونية الحصار الذي تفرضه إسرائيل على قطاع غزة، وسيكون ذلك واحداً من خمسة إجراءات أعلنت عنها أنقرة، كرد على رفض إسرائيل تقديم الاعتذار عن قيامها بقتل تسعة متضامنين أتراك، كانوا على متن سفينة "مرمرة" في أيار العام الماضي.

من الواضح أن العلاقات التركية - الإسرائيلية آخذة في التدهور المتسارع، ذلك أن تركيا لم تكتف بطرد السفير الإسرائيلي من أنقرة، يوم الخميس الماضي، وهي التي كانت قد استدعت سفيرها في تل ابيب منذ نحو عام، ولم تنجح المحاولات الأميركية المستعينة بالتدخل الأممي، عبر منظمة الأمم المتحدة، في وقف هذا التدهور في العلاقات بين بلدين "حليفين"، تربطهما علاقات ديبلوماسية واتفاقيات تعاون مشترك، بما في ذلك الجانب العسكري منذ سنين طويلة، في الوقت الذي تعتبران فيه أهم حلفاء واشنطن في المنطقة.

لم ينجح، إذاً، تقرير لجنة بلمار، التي شكلتها الأمم المتحدة للتحقيق في أحداث أسطول الحرية "بلمّ" الموضوع، رغم أنه أوصى إسرائيل بالاعتذار كون قواتها الخاصة قد استخدمت القوة المفرطة، ومارست القتل العمد بحق متضامنين لم يكونوا يشكلون أي تهديد أمني على إسرائيل، حيث أصرت الحكومة الإسرائيلية على عدم الاعتذار.

لماذا تصرّ حكومة نتنياهو على عدم الاعتذار، وهي تغامر بعلاقاتها مع تركيا، إلى هذا الحد؟ هذا هو السؤال، وعند البحث عن الإجابة، يتضح أن طبيعة الحكومة الإسرائيلية ما زالت تمنعها من إبداء أية مظاهر مرونة في المواقف السياسية التي تواجهها، خشية فرط عقد هذه الحكومة، رغم مرور نحو عامين ونصف العام على تشكيلها، واجهت خلالها أزمات سياسية عديدة، منها بالطبع ملف المفاوضات مع الجانب الفلسطيني، كذلك فإن تقديرات بعض المسؤولين الإسرائيليين، تسير إلى أن أحد الدوافع إلى عدم الاعتذار، هو قطع الطريق على أنقرة، التي تريد أن تثبت أنها قادرة على إجبار إسرائيل على التنازل!.

يبدو إذاً أن خلفيات التصعيد في التوتر بين البلدين، هو طموحهما الاقليمي، الذي انتقل من دائرة التحالف إلى دائرة التنافس، والإسرائيليون الذين يرون في تقرير بلمار تأكيداً لموقفهم، بدأوا في "الهجوم" على أنقرة، حيث نسبت الصحف الإسرائيلية إلى مسؤول إسرائيلي تنديده بالاستراتيجية العثمانية الجديدة التي تتبعها الحكومة التركية، حسب وصفه، فيما أشارت التقارير، إلى أن تركيا كانت قد قدمت احتجاجاً رسمياً لتل أبيب في كانون الأول الماضي، على اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل وقبرص، والذي يمهد لبدء التنقيب عن الغاز في البحر، وذلك على اعتبار أن قبرص "اليونانية" لا تمثل كل قبرص، في إشارة إلى ضرورة أن تأخذ قبرص التركية "نصيبها" من الكنز البحري.

ضمن الإجراءات التي تنوي أنقرة اتخاذها، هو ما تلقته قواتها البحرية من أوامر بأن تكون أكثر حركة وتيقظاً، في الوقت الذي يقال فيه إن تركيا تفكر في أن ترافق سفن عسكرية، سفنها التي تعبر البحر المتوسط، ومنها تلك التي تتجه إلى غزة، لكسر الحصار عنها، ومن المؤكد بأن قراراً قضائياً يدين حصار إسرائيل لغزة، يمكن أن يصدر عن لاهاي، سيفتح الباب واسعاً لهذا الأمر، حينها ستواجه إسرائيل أحد خيارين: إما التسليم بنجاح تركيا في كسر الحصار فعلياً عن غزة، وإما الدخول في حرب بحرية، تحيل حياة إسرائيل إلى جحيم، لأن الأمر يتعلق بالمياه الاقليمية الممتدة من خليج الاسكندرونة، جنوب تركيا، إلى قناة السويس، أي كل الشواطئ الإسرائيلية، بما يمكن أن يضع إسرائيل ذاتها في حالة حصار، تشبه حالة الحصار التي يتعرض لها قطاع غزة، وفي الحالتين، فإن تركيا، ستغدو بطلة في عيون العرب والمسلمين في المنطقة، ستسند لها راية الزعامة في عصر التحول الديمقراطي الداخلي، بما يجعل منها اللاعب الاقليمي الأول، وهي في هذه الحالة تدرك بأن انتهاء الحرب الباردة، قد أحال إسرائيل من حليف للغرب إلى عبء عليه، وأن استمرار التأييد الأميركي، فقط، لإسرائيل، ما هو إلاّ الاستثناء الذي يؤكد القاعدة.

وتركيا، وخلال نحو عامين فقط، قد دخلت المنطقة من أوسع أبوابها، ومن الواضح أنه سيكون لها دور حاسم جداً في تحديد مستقبل النظام في سورية، وتركيا التي نجحت في إحداث نمو اقتصادي، تتطلع إلى شراكة في ثروات المنطقة، من النفط إلى الغاز، ويقيناً بأنه إن لم تذهب إسرائيل إلى التفاهم مع تركيا، حول حقول الغاز البحرية، فإن حرباً بحرية قادمة لا محالة، ستلحق الضرر بإسرائيل، في المدى المنظور على الأقل، لأن توتراً عسكرياً في شرق البحر المتوسط، سيؤخر على الأقل استخراج الغاز، وسيعطل الخطط الإسرائيلية بهذا الخصوص. خاصة مع تزايد أزمة الغاز في إسرائيل، مع فتح اتفاقية الغاز المبرمة بينها وبين مصر، في عهد نظام مبارك المخلوع.

كما أن التوقيت هو نموذجي بالنسبة إلى تركيا، فإسرائيل تواجه معركة ديبلوماسية في الأمم المتحدة، بعد نحو أسبوعين فقط، والتنسيق بين تركيا والفلسطينيين والعرب، سيعزز من فرص عزل إسرائيل وإدخالها في مأزق حقيقي، لذا فإن مراهنة إسرائيل على انشغال الغرب، وعدم تمكن أوروبا من اتخاذ موقف لصالح المشروع الفلسطيني في الأمم المتحدة، أو متوازناً على الأقل، بما يحدث في الدول العربية من ثورات، ستكون مراهنة محفوفة بالمخاطر، لأن طبيعة الحكومة الإسرائيلية لم تدرك بعد حجم التغير فعلاً في الموقف التركي، ولا حتى فاعلية الموقف المصري، ولا ما يمكن أن تذهب إليه الجامعة العربية والفلسطينيون أيضاً.

إن تصاعد المكانة الاقليمية التي تتمتع بها تركيا، يسحب البساط من تحت أقدام إسرائيل، لذا فإنه رغم دعوات ضبط النفس التي جاءت على لسان الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس ورئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ترافقت مع تصريحات نارية من مثل تلك التي أطلقها موشيه ياعلون وزير الشؤون الاستراتيجية، الذي هاجم أنقرة، مؤكداً على رفض إسرائيل تقديم الاعتذار لمنظمة "أي اتش اتش"، مشيراً إلى المنظمة الإنسانية التركية، ذات الوجهة الإسلامية.

إلى أين تذهب الأمور، لا أحد يمكنه أن يعرف بالضبط الآن، لكن من الواضح بأنه إن لم تتراجع إسرائيل، وهذا أمر يبدو مستحيلاً في ظل حكومتها الحالية، فإن علاقتها بتركيا، لن تبقى علاقة باردة، بل ستغدو أكثر سخونة لكن في إطار من الجفاء وليس الود. وليس هناك ما يدعو تركيا إلى التراجع، ما لم تقدم لها تل أبيب تنازلات مهمة في أحد حقلي الطموح التركي: شراكة الغاز البحري، أو تعزيز دورها في المنطقة، وفتح الطريق أمامها لكسر الحصار البحري عن غزة.

ومن الواضح أيضاً أن التغيير في المنطقة، لا يقتصر على تغيير الحكام العرب، ولا على العلاقات البينية بين دول المنطقة، بما في ذلك مراجعة علاقات قائمة، وحتى اتفاقيات مبرمة، بل دور ومكانة بعض الدول الاقليمية، وقد كان واضحاً أن "مكانة إسرائيل" الاقليمية، التي منحها إياها الغرب في الحرب الباردة، كانت على حساب الدول الاقليمية: مصر، إيران، تركيا، ولأجل ذلك خاضت الأولى مع إسرائيل حروباً طاحنة. فيما إيران ومن ثم تركيا، فقد انتقلتا بالتتابع من دائرة التحالف معها إلى التوتر ومن ثم العداء، وتركيا لديها الآن، ما لم يكن لدى مصر وإيران، نقصد النمو الاقتصادي، والرزانة السياسية، أو السياسة المعتدلة، المقبولة والممكنة، إي القادرة على إحداث التغيير المنشود.