خاص مجلة القدس العدد 327 حزيران 2016- بقلم: محمد سرور

بدأ بصوتٍ عال الحديث عن أزمات بنيوية تواجه أنماط الحكم في عالمنا. وأمام قوة هذه الأزمات بدأ البحث الجدي عن البديل الذي  يناسب المرحلة القادمة من تاريخ الأوطان والأمم. يبدو جليا أن حالة نهوض كبرى تسود عالم القوميات والأمم، وهي طاغية ومحتدمة إلى حد كبير في اوروبا، كما في أميركا أيضًا- حالة ترامب. هذه الحالات في غالبيتها تميل إلى التشدد والإنغلاق الأقرب إلى الحال الفيتوي نتيجة تأثيرات جوهرية حصلت داخل كل دولة بسبب الهجرة وتأثيرها على الإقتصاد ومن ثم الأمن. الملفت هنا أن الأسباب هي واحدة تقريبا، فيما الفارق يكمن في قوة الإستجابة الشعبية ومصداقية القوى التي تحمل الأفكار المؤثرة.
من هنا لم يعد غريبًا الآن علينا مشاهدة إسرائيل تتبوّأ منصبًا دوليًا يختص بالقانون الدولي في الأمم المتحدة. فهذه الدولة التي تتسلّم زمام هكذا منصب هي الوحيدة في العالم التي تمرّدت على القوانين الدولية كلها، وازدرتها ونفذت سياساتها العدوانية- الإستعمارية، تحت مرأى ومسمع العالم أجمع... كأن في الأمر جائزة لإسرائيل على هذا الخرق الفاضح والمزمن للقانون الدولي... إنه العار الدولي الذي شاركت فيه- تصويتا- اربع دول عربية... للأسف الشديد... الشديد.
ما سبق يقودنا إلى السؤال التالي: هل الأمم المتحدة- بمؤسساتها ومصداقية دورها الذي تأسست بموجبه لم تزل المنبر المناسب لطرح القضايا التي تدخل ضمن اختصاصه، وحل القضايا التي تعاني منها الشعوب في العالم- وضمنها القضية الفلسطينية؟
ماذا عن القوى الصاعدة في العالم: كالهند والبرازيل؟ ماذا عن المكيال الذي تكيل به الأمم المتحدة قراراتها؟
ومقابل كل ما سبق لم تشرعن دولة الإحتلال احتلالها فحسب، بل سنّت القوانين واتخذت الإجراءات التي تتجاوز كل قانون ومنطق في تحويل مسألة تقرير واستقلال الشعب الفلسطيني المناضل في سبيل نيل حقوقه الوطنية والإنسانية إلى جرائم يعاقب عليها قانون الإحتلال.
وما سبق أيضًا يدخلنا في مسألة التماهي العميق بين إسرائيل واللوبيات المؤيدة لها في أوروبا وأميركا ومن خلالها تلك العلاقة غير الشرعية بينها وبين القوى القومية والعنصرية في العالم.
أين نحن كعالم عربي مما يحصل في بريطانيا وغيرها من دول العالم الآن؟ وبشكل أدق أين الفلسطينيون من وحدتهم الوطنية من خلال ما يحصل، واستطرادًا من خلال الإتفاق التركي الإسرائيلي حول استعمال حركة حماس في وجه المشروع الوطني وجارة غزة- مصر أيضًا؟
الزلزال البريطاني الذي أحدثه الإستفتاء على "التحرر من الإتحاد الأوروبي" اعتبره المنادون بالإنفصال عن الإتحاد عودة بريطانيا إلى جذورها الأصلية وبأنهم استعادوا دولتهم من الإتحاد، كجزء من حق الشعب البريطاني في تقرير مصيره.
الخاسرون لمعركة البقاء في الإتحاد اعتبروه يومًا أسود في تاريخ بريطانيا، وبأن الإنفصال سوف يكلف البلد أعباء إقتصادية عالية.
الرابحون للمعركة رأوا أن طبقة الرأسماليين وفاحشي الثراء هي المستفيدة من البقاء، فيما متوسطو الدخل وما دونه اختاروا الطلاق مع الإتحاد بسبب شعورهم بمنافسة الأيدي العاملة وخطر فلتان موجات الهجرة والتهديد الأمني الذي يصاحبه على بلدهم- الذي هو جزيرة أصلا، وبالتالي لا مجال لتحوّل أمواج المهاجرين باتجاه بلد يملك حصانة جغرافية تؤهله الحفاظ على نفسه من ذلك الخطر الذي غزا اوروبا مؤخرًا.
الحدث البريطاني يناسب برنامج "ترامب" المرشح الجمهوري للولايات المتحدة الأميركية للرئاسة، ولم يخفِ دعمه لانفصال بريطانيا، كونه متشدد تجاه الهجرة، معتبرًا أن بريطانيا "سوف تكون أقوى بعد الإنفصال، وأن مسار تفكك الإتحاد الأوروبي قد بدأ". فيما المحللون والمحيطون بالسياسة من الأميركيين يرون أن مواقفه تطرح سؤالا كبيرًا حول جدارته السياسية.
ألميل إلى اعتبار فوز النزعة الإستقلالية عن الإتحاد الأوروبي هو تعبير صارخ عن النزعة الإستعلائية- الأمبراطورية للبريطانيين، وهي تناسب القوميين وقوى اليمين المتطرف التي بدأت تغزو المجتمعات الأوروبية، المتشددة تجاه السيادة والمعارضة لاستقبال المهاجرين، فيما عرّف اليسار المتطرف الإتحاد بصفته "اتحاداً مالياً يتحكم بالاوروبيين". ماري لوبن مثلا وعدت الفرنسيين بإعادة الإعتبار "للفرنك الفرنسي" كونه يرمز إلى السيادة الوطنية.
بالمقابل بدا الخوف من الإرتدادات العكسية للخطوة البريطانية، إذ بدأت الأسئلة تطرح حول: ماذا عن حق اسكتلندا التي تفضّل البقاء في الإتحاد؟ ماذا عن موجة عنف جديدة قد يبدأها المنادون بالإنفصال عن بريطانيا... الإيرلنديون الشماليون مثلا؟
الهبوط الحاد الذي أصاب البورصة العالمية وأسعار النفط، أثار أسئلة عميقة تتعلّق بسلطة رأس المال وتأثيره العميق على اقتصادات الدول وبالتالي تبيّن أن لا نظام اقتصادياً- أو معسكراً- نموذجياً لا تهزمه تقلبات السوق واهتزازاته... وبالتالي انكشفت هيمنة اقتصاد الورق على اقتصاد الإنتاج.   
وهنا من الضروري أن يذكّر الفلسطينيون العالم بحقّ تقرير المصير، الذي لا يمكن أن يكون انتقائيًا، وحق لشعبٍ دون آخر. الفلسطينيون هم الأحق بين شعوب الأرض قاطبة بتقرير مصيرهم وإعلان دولتهم المستقلة. ماذا يكون موقف الشعب البريطاني من حق الشعب الفلسطيني، وبالتالي موقفه من أبشع وأخطر أنواع الإحتلال المعاصر على الإطلاق؟
 يبدو أيضًا أن قرار الشعب البريطاني الإنسحاب من الإتحاد الأوروبي مرتبط ارتباطا وثيقًا بما يحصل فوق الأرض العربية وهو أحد تداعياته المباشرة في التأثير بالرأي العام البريطاني، لأن التيار اليميني والقومي المتطرف استغلّ حال الفوضى الناتجة عن عدم الإستقرار في العديد من دول المنطقة وما صحبه من تداعيات على صعيد هروب مئات آلاف المواطنين الشرق اوسطيين والأفارقة، ناهيك عن موجات الهجرة التركية- الكردية التي تتأثر اوروبا بصراعاتهما فوق أراضيها، وبالطبع يزيد ذلك من التنافس حول فرص العمل والتأثير على الدخل العام للبلد الملزم بالتقديمات الإجتماعية للوافدين إليه من جيوب دافعي الضرائب من مواطنيه.
كان الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول من أشد المعارضين لانضمام بريطانيا إلى السوق الأوروبية المشتركة، ولا يتردّد في القول " أنتم البريطانيون أميركيون اكثر مما أنتم أوروبيون". فيما قيل عن موقف بريطانيا وتأثير مواقف حكومتها المؤيدة للسياسة الأميركية على مواقف الإتحاد الأوروبي، بأنها "سفير الولايات المتحدة في الإتحاد الأوروبي". مما يعني أن موقع بريطانيا مهم جدا بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، ومسألة تحديد إجابية الإنفصال بالنسبة للإدارات الأميركية لن يتضح بسرعة، لأنه مرتبط بمسار مستوى الفائدة وبالقدرة على التأثير من خلال الموقع الذي تكون فيه. قد يكون الإستفتاء منح للفرنسيين فرصة كبرى لهم بتصدّر الزعامة السياسية الأوروبية وبنسبة استقلال اكبر مقارنة مع وجود بريطانيا في الإتحاد، فيما رسّخ الموقع الإقتصادي لألمانيا مكانتها، بصفتها الدولة الأوروبية الأقوى إقتصاديا.
الخروج البريطاني من الإتحاد سوف يلزم حكومتها البحث عن البدائل، التي يفترض أنها تعوّضها خسارة موقعها في الإتحاد، وبالتالي هي بحاجة منذ الآن للبحث عن الأسواق، وملزمة بتعديل موقعها السياسي، فما قبل الانفصال لا يمكن أن يكون كما بعده.
كما بدأنا: سوف نكون قريبا امام تحدٍّ من نوع مختلف يتصل بنظام الحكم السائد في العالم ومن خلاله إعادة رسم للجغرافيا البشرية- السياسية له. الخطير في الأمر أن العربي والمسلم سوف يكون كبش فداء العالم الجديد القادر على التكيّف وإقامة العلاقات من خلال تبادل المصالح والمنافع المشتركة، فغيم عالمنا العربي لم يزل يدور في متاهته العقائدية- الغوغائية تحت مسميات وشعارات تجاوزتها أوروبا منذ اكثر من قرنين من الزمن.
سوف تستطيع بريطانيا- بصفتها دولة مركزية قوية-  إدارة علاقاتها الدولية بطريقة ثنائية، رغم الصعوبات التي قد تنشأ وتجبرها على مواجهتها.
هل سيبقى عالمنا العربي متنفسًا للقضايا المتوارثة من العهد الإسلامي الأول وسواه، ومن خلاله يستمر التناحر والدمار الذاتي- المقدّس- ويستمر معه تدفّق "ستوكّات" السلاح المسموح أن تتقاتل شعوبنا بواسطته والذي لا يؤثر أبدًا على موازين قوى ما "كان" يسمى ذات مرحلة بائدة: الصراع العربي- الصهيوني؟