في الطريق إلى استحقاق أيلول، أي ذهابنا فلسطينيين إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، بصفتها بيت الشرعية الدولية، لنطرح عليها ما آلت إليه المفاوضات الفاشلة بسبب التعنت الإسرائيلي، ولنطلب اعترافاً بدولتنا الفلسطينية المستقلة في حدود الرابع من حزيران عام 1967، وبالتالي المطالبة بعضوية كاملة في الأمم المتحدة، في الطريق إلى هذا الاستحقاق، تغلق أبوابا وتفتح أبوابا أخرى، تلوح فرص وتظهر مصاعب جديدة، هناك في العالم من يواصلون التجاوب مع مطالبنا المشروعة، وهناك من يحجمون، ويقطعون علينا الطريق، ويمارسون أنواعاً من الضغوط والتهديدات، ويحشدون معهم أطرافا أخرى!!!

و لكن هذا كله يؤكد أن موضوع الدولة الفلسطينية المستقلة، بحدود الرابع من حزيران عام 1967 التي أقرتها الشرعية الدولية، هي قضية مطروحة على جدول أعمال العالم بحضور قوي، رغم أن العالم، وخاصة منطقتنا، ليس خالياً من المشاكل والتحولات والاضطرابات وعواصف التغيير الكبرى.

و لكي نضع الأمور في نصابها، بعيداً عن ذلك النوع من الهروبية الذي يقول بعدمية: وماذا يفيدنا اعتراف الأمم المتحدة، فقد حصلنا على اعترافات كثيرة في العام 1988 وما تلاه وظل الاحتلال هو الاحتلال؟

و دون تضخيم التوقعات الذي يؤدي في العادة إلى تضخيم الإحباط، نريد أن نتفق أولاً، أنه في حالة النجاح في مسعانا كما في حالة الفشل، فإن ذلك لن يكون نهاية الطريق بل هي معركة في حرب طويلة، إن نجحنا فأمامنا الكثير، وإن فشلنا فليس نهاية الكون.

و لكن في كلتي الحالتين، فإن فكرة الكيانية الفلسطينية، الدولة الفلسطينية، يجب أن تحتل مكانها اللائق والأولوية الأولى في الفكر السياسي الفلسطيني، وفي الممارسة السياسية الفلسطينية، لأن هذه الفكرة ما زالت غامضة، ومشوشة، ومهتزة عند الكثيرين حتى داخل النخب السياسية نفسها، وهذا يعود إلى بدايات نشوء القضية الفلسطينية وظهورها إلى العلن في مطلع القرن الماضي، حين كان هناك التباس واسع جداً في فهم المشروع الصهيوني وتداعياته الخطيرة، وحين كان الأشقاء العرب في مجملهم آنذاك لا يفهمون عمق المطلب الفلسطيني المتمثل بضرورة نشوء الكيانية الفلسطينية، وبلورة الاستقلال الفلسطيني في دولة خاصة بهم.

في الطريق إلى استحقاق أيلول، سواء سبقته مفاوضات إن توفرت عناصر رؤيتنا، أو ظلت المفاوضات مجمدة، فإن المطلوب هو ألا نترك الجوهري ونركض وراء الشكلي، وألا نهرب من الممكن السياسي ونتسابق ونتقاتل على المستحيل، وألا نحطم ما بأيدينا انتظاراً للأوهام الجميلة!!! يجب أن نتفق أننا الشعب المظلوم الذي تعرض لمؤامرة بعثرت الهوية وتدمير الكيان، وأنه لا يوجد لدينا مقدس يسبق قيام دول فلسطينية مستقلة، توجد ضمن خارطة العالم مهما كانت الشروط والمستلزمات قاسية.

 

و في كثير من الممارسات السياسية العربية التي جرت قبل وقوع النكبة أو بعد وقوع النكبة، كانت النشاطات السياسية تتم دون أي نوع من الحضور الفلسطيني!!! هكذا جرى على سبيل المثال في التعامل العدائي مع ممثل الشعب الفلسطيني، أي الهيئة العربية العليا ورئيسها المفتي الحاج أمين الحسيني، ونفس الشيء جرى مع الجيش الفلسطيني بقيادة عبد القادر الحسيني الذي عومل من بعض الجيوش العربية التي دخلت إلى فلسطين كخصم بل وكعدو أحياناً، وهكذا جرى مع الحكومة الفلسطينية التي جرى تأسيسها في خريف عام 1948 وأسندت رئاستها إلى أحمد حلمي عبد الباقي!!! وهكذا جرى أيضاً في المفاوضات حول حدود الهدنة القائمة حتى الآن، حين رفضت كل الوفود العربية أن تأخذ معها ولو عضواً فلسطينياً واحداً.

و كانت الأسباب وراء ذلك النوع من التعامل مع ممثلي الشعب الفلسطيني عديدة، من بينها الخوف من بريطانيا – الخصم والحكم آنذاك كما هي أميركا الآن -، ومن بينها الأطماع الخفية في الحصة الفلسطينية التي تكشفت بعد ذلك إلى مستوى الفضائح المذلة!!! وكذلك صراع المحاور العربية، وخاصة المحور الهاشمي والمحور الثلاثي المصري السعودي السوري!!! وكان هناك دائماً تمزق الفلسطينيين المأساوي بين كل تلك الأسباب وكل تلك المحاور، وهو ما نسميه الآن بالانقسام الفلسطيني، الانقسام الذي هو اللعنة التي نعاني منها في كل المراحل.

الآن، حتى الآن، لدينا اتفاق للمصالحة الوطنية، ولكنه بعد أكثر من شهر من التوقيع عليه لم يخط خطوة واحدة إلى الأمام، ولم يتبلور بعد في حكومة واحدة، حكومة وحدة وطنية، والخلافات حول تشكيل الحكومة بطريقة تجعلها تمر وتلقى القبول وتكون الخطوة الأولى الناجحة، هذه الخلافات تصل أحياناً إلى درجة كبيرة من العبث.

ما هو المطلوب؟؟؟

و الجواب، أن يصمد اتفاق المصالح، وأن يتطور إلى الأمام بسرعة حتى لا يتخلف عن الأحداث فيفقد قيمته، وأن يصبح عاملاً فاعلاً بشكل إيجابي في المعادلة، لأن ذهابنا إلى بيت الشرعية في أيلول ونحن منقسمون – لا سمح الله – سيكون ملهاة عبثية، وكوميديا سوداء، تثير الحزن والسخرية في آن واحد.

مع الأسف، فإننا نرى اتفاق المصالحة لا يكتفي انه لا يراوح مكانه، بل يتعرض إلى هجمات متلاحقة من كل ذئاب الانقسام، فالإسرائيليون صانعو الانقسام جن جنونهم، وبرزت أنيابهم!!! وحلفاؤهم في العالم ينظرون إلينا بتوجس وبمزيد من الاتهامات!!! ولكن الأدهى من كل ذلك هم ذئاب الانقسام المحليون، الفلسطينيون، الذين لا نسمع منهم سوى التهديد بالإطاحة بالمصالحة بسبب ودون سبب.

أثيرت حكاية معبر رفح صعوداً وهبوطاً، فرأينا التهديدات الصارخة ضد اتفاق المصالحة!!! وطرحت المبادرة الفرنسية الجريئة والشجاعة التي تواجه حتى الآن ما يشبه الرفض الإسرائيلي والأميركي، فرأينا التهديدات توجه إلى اتفاق المصالحة، وكلما سمحت فرصة باتجاه المفاوضات حسب رؤيتنا الفلسطينية الرئيسية، أي مرجعية حدود عام 1967، يكون الرد بإطلاق التهديدات ضد اتفاق المصالحة.

هناك عجز فاضح عند بعض الأطراف الفلسطينية عن رؤية حقائق القضية الفلسطينية وعن رؤية الواقع المحيط بنا، حيث الدول القائمة الراسخة على الخارطة منذ عقود بل منذ قرون، مهددة بالتجزئة والانقسام والتفتت، ولا أحد من الصارخين يتوقف ليسأل كيف سيكون حالنا نحن الذين ليس لنا حتى الآن دولة موجودة على الخارطة؟؟؟

إسرائيل، عدونا الوجودي، يتعامل قادتها منذ إنشائها قبل ثلاث وستين سنة على قاعدة «دع المختلفين العرب والمنقسمين الفلسطينيين ينوبون عنا في تنفيذ ما نريد»!!!

وماذا تريد إسرائيل؟؟؟

إنها – كما قال مشي شاريت في عام 1948 - تريد عدم بلورة هويتنا الوطنية الفلسطينية، أي نظل مجرد سكان وليس شعباً!!! وعدم بلورة كياننا الوطني، أي بقاء الأرض بمدلول جغرافي وليس بمدلول سياسي، أرضا متنازعا عليها وليست أرضا محسومة لشعبها الفلسطيني!!!

و هذه هي العقدة الأصلية والأصعب التي يفاوض عليها المفاوض الفلسطيني، نريد أن نتفاوض على كيفية ومستلزمات ومتطلبات واستحقاقات الانسحاب الإسرائيلي من أرضنا، بينما الإسرائيليون يريدون التفاوض على تحديد هوية هذه الأرض وهل هي إسرائيلية أم فلسطينية!!! والفرق بين الرؤيتين بعيد جداً أبعد من المسافة بين الأرض والسماء.

إذا احتشدت ظروف ومعطيات وعناصر جديدة تفرض على إسرائيل أن تفاوضنا على كيفية ومستلزمات وشروط الانسحاب من أرضنا، فسوف نذهب إلى هذه المفاوضات، وضروري أن نذهب، ونكون مجرمين بحق أنفسنا إذا لم نذهب!!! وإلا نكون قد وقعنا في المصيدة التي نصبت لنا بإحكام منذ البداية، مصيدة رفض قرار التقسيم، ومصيدة أن يحل غيرنا بدلاً منا في تقرير مصيرنا.

في الطريق إلى استحقاق أيلول، سواء سبقته مفاوضات إن توفرت عناصر رؤيتنا، أو ظلت المفاوضات مجمدة، فإن المطلوب هو ألا نترك الجوهري ونركض وراء الشكلي، وألا نهرب من الممكن السياسي ونتسابق ونتقاتل على المستحيل، وألا نحطم ما بأيدينا انتظاراً للأوهام الجميلة!!! يجب أن نتفق أننا الشعب المظلوم الذي تعرض لمؤامرة بعثرت الهوية وتدمير الكيان، وأنه لا يوجد لدينا مقدس يسبق قيام دول فلسطينية مستقلة، توجد ضمن خارطة العالم مهما كانت الشروط والمستلزمات قاسية.