تتعمق حيثيات القضية العادلة، في وجدان شعبنا وأمتنا، مع كل إحياء لذكرى النكبة. إنها حيثيات تتخطى السياسة وتختزل موقفاً يتشبث فيه العقل والوجدان الفلسطينييْن، بالمُدركات التاريخية والجغرافية لقضيتهم. إنه إحياء طقوسي يرقى الى سوّية العقيدة التي تضرب السياسة الرديئة في خاصرتها. فيافا وحيفا وعكا والجليل والنقب، وكل المواضع الغائبة في السياق العام لمنطوق التسوية المعطلة؛ تتسم جميعها بالراهنيّة وبالحضور القوي، من خلال إحياء ذكرى النكبة. لم يعد ثمة شىء ذو قيمة، فوق أو بعد هذه المُدركات. إن ما بدا للكثيرين، في ذروة تفاؤلهم بالتسوية، رداء بديلاً للعُري، مُتاحاً، وهو في آخر أطوار الصناعة والحياكة؛ بات وهماً. لم يتبق منه سوى بقايا خرقة من كلام، بالية كاسية عارية، تشُف ما تحتها وما قبلها.

في ذكرى النكبة، تُسترجع الرواية الفلسطينية الأولى، من حيث هي شاسعة ومذهلة، كمأساة إنسانية. فليس هناك، في التاريخ، فعلٌ أوغل في الجريمة، وأولغ في الدم، مثلما كانت نكبة شعب فلسطين، في نسق حياته، وفي استقرار مجتمعه، وفي حقه الأصيل في الاستحواذ على أرضه ومقدراته، وفي تَبَدّي هويته.

إن إحياء ذكرى النكبة، سيكون أعمق فأعمق، على مر السنين. إنه يمثل موقفاً مضاداً، على نحو جذري، إنسانياً وحضارياً، وسياسياً؛ لظلامية الصهيونية، ولوجهها الأخلاقي البشع، ولاستكبارها الإمبريالي، ولانقلابها على مفاهيم العدالة والإيمان، وحتى لانقلابها على قيم الدين اليهودي نفسه، مثلما عرفه وآمن به حاخامات منزّهون، عاشوا وماتوا وتناسلوا، خارج سياقات الهواجس الصهيونية، وقد عرفتهم تجمعات أتباع هذا الدين، في أرجاء عدة من المعمورة، وعلى مر التاريخ!

اللافت أن الصيغة الأولى، للنكبة، التي ارتجلها الفلسطينيون المعاصرون لها، وغلب عليها طابع النُثار ومذكرات هنا وهناك، وأقاصيص شفوية، كان الراحل العزيز عبد الله حوارني (أبو منيف) يجاهد لتجميعها وتوثيقها؛ قد تطورت بالتقدم في تقنيات الأرشفة والتوثيق والعرض، وبالمثابرة على الدراسات التاريخية الاجتماعية الاقتصادية، لفلسطين الوطن، والمجتمع، والحضارة، والقضية. ومن حُسن المصادفات، بل إن من جماليات الإحباط السياسي، أن انسداد أفق التسوية؛ ساعد على إنعاش الذاكرة، وضاعف الحماسة الى التمسك بمدركات فلسطين الأمل والفردوس المستلب. ففي الأراضي المحتلة عام 1948 ظل الوعي بالحق، لدى من تبقوا من أصحاب الأرض الأصليين، يعلو ويتعمق، كلما علت وتائر الاستكبار العنصري وكلما استجمع هذا الاستكبار، لنفسه، المزيد من عناصر القوة المادية!

إن كل حرف من حكاية النكبة، يؤتى به، في الصياغة المُحْكَمة لرسالة شعبنا الى الأمم؛ أصبح الآن، يستمد زخمه من شوط طويل، قطعته الإنسانية، على طريق وعيها بمقتضيات العدالة وبحقائق التاريخ. وكلما ألحّ الفلسطينيون في التذكير بجريمة انتكاب شعبهم ووطنهم، على أيدي ظلاميين معتوهين عنصريين؛ يتبدى هؤلاء ومن يساندهم، غرباء عن العصر، ومُدانين في أحكام التاريخ وبموجب شرائع الأرض والسماء.

نقول بواقعية ودونما مبالغة؛ إن الناظر الى الفجوة الماثلة، والمتسعة باطراد، بين ضمائر الشعوب وقشورها السلطوية ذات الانتهازية الرأسمالية، يعلم أن هؤلاء المحتلين، المهووسين بعنصيرتهم؛ يقفون على أرضية هشة وملفقة، وأن لا عمق لحضورهم في وجدان العالمين، ولا في ثقافة البشر. بل لا يلائم حضورهم الاستعماري هذا، بمنطقِه المجنون، سنن التاريخ ولا صيروراته!

منكوبون نحن، نعم. غاصبون غالبون هم نعم. لكن ذاكرتنا أقوى وأدعى الى القلق، بالنسبة لهم، أكثر مما يُقلقنا واقع الغَلبَة الراهنة وواقع الهوان العربي المستشري في زمن أغبر. لن يناموا، في سياقهم الإقصائي الطامع المشوّة؛ على وسادة اطمئنان. وبقدر ما نحن منكوبون في فلسطين، فإننا كذلك منكوبون في سادة قومنا وفي طبائع أنظمتنا وإراداتها وروحها. لكن التاريخ يعلمنا أن دوام الحال من المحال. لدينا عزم وشغف، على الاستزادة من العلم بالحكاية. مستعدون لأن نقابل تفصيلات أطماعهم بتفصيلات أمنياتنا التي تؤيدها حقائق الأمس القريب. ففي هذا الانسداد، نعود فنقول لهم، إن من يضنّ علينا ببعض حقنا، وبتسوية ارتضيناها مُكرهين؛ لن نعترف له بأي حق. فلا شرعية لوجودهم على ساحل فلسطين ولا في جليلها ونَقَبها. ليس أجدر ولا أنبل من الوعي بالنكبة، حين يتعلق الأمر بجواب على عاندهم وعنصريتهم. ينعكس جوابنا موقفاً مغمساً بمعاني العز والكبرياء. لن نتلعثم، مهما طال الزمن، وسنظل نقُص على أبنائنا أحسن وأصدق القصص. وحين يبدو أنهم يطمحون الى الامتداد شرقاً لكي يرسخوا اقدامهم في الأغوار، أو أن تزحف "معالي أدوميم" المختَلَقة، التي بدأت من مشارف القدس، لتطل على أريحا، فيما هي تعتلي جداراً من جبال، مثلما يعتلي اللصوص جدران المنازل؛ فإننا سنظل نرى في حيفا، أيقونة ضائعة، ولن يضيع حق وراءه مُطالب!

في كل ذكرى للنكبة، يستعيد الفلسطيني كل سطور الحكاية. يستحضر ذكريات حياة آبائه وأجداده قبلها، ويجدد شوقه لصور أيامنا وأوقاتنا، لكي ينسج منها ثوباً دافئاً، يقيه ويقي أبناءه من صقيع السياسة!