من مفارقات الاحوال في المجتمع الفلسطيني في لبنان ان معين الإبداع والتجدد قد نضب في العقود الثلاثة الماضية الى حد كبير. وخلال الثلاثين سنة الماضية لم يظهر بين الفلسطينيين شاعر مهم، أو فنان تشكيلي مرموق، أو روائي له مكانة في حقل الأدب او باحث له شأن في ميدان البحث العلمي والغريب ان الفلسطينيين في لبنان الذين أطلقوا في فضاء العلم والثقافة بين 1948 و 1982 أسماء لامعة أمثال وليد الخالدي وأنيس صايغ ويوسف صايغ وصبري الشريف وأحمد شفيق الخطيب وعبود عبد العال وعبد الكريم قزموز ومحمود سعيد وسمير قصير ونبيل خوري وناجي العلي وغيرهم كثيرين جداً، لم تسعفهم الاحوال في تطوير حركة فكرية او أدبية أو فنية في الحقبة التي أعقبت الخروج الفلسطيني الكبير من لبنان في سنة 1982، مع أن الأوضاع الاجتماعية في الحقبة الاولى كانت قاسية جداً ومرّة جداً، بينما كان من المفترض أن يتمكن الفلسطينيون في الحقبة الثانية من أن يتلغبوا على مصاعب أيامهم بسرعة جراء الخبرات التي راكموها، والتجارب التي عاركوها. غير أن واقع الحال لا يتطابق مع مثل هذه المقارنة "المنطقية " على الاطلاق.

لماذا كانت الامور على هذا النحو؟ ولماذا غوّرت الايام نضارة الفلسطينيين في سعيهم الى مواجهة ظروفهم وتأكيد ذواتهم ومثابرتهم على التجريب ومحاولاتهم المتكررة للتغلب على المصاعب؟ ربما يكمن الجواب في عاملين كان لهما التأثير البالغ في المصائر التي انتهت اليها أحوال الفلسطينيين في لبنان. العامل الأول هو انشطار الهوية الفلسطينية بعد سنة 1982؛ فهوية الفلسطيني كانت مندغمة بفكرة المقاومة المسلحة، وكانت لها راية وحيدة هي منظمة التحرير الفلسطينية، وكان ثمة أمل في إمكان النصر والعودة الى فلسطين. وفي هذا السياق شكل المخيم جانباً مهماً من هوية الفلسطيني، وساهم في صوغ الهوية الوطنية الجديدة التي نشأت على انقاض الهوية التقليدية الموروثة مما قبل النكبة، وعلى نقيض الهوية المهزومة التي عاشت لفترة قصيرة بعد النكبة، وانتهت مع ظهور "العاصفة" في سنة 1965. وكان الشبان الفلسطينيون في المخيمات يختبرون في كل يوم عوالم جديدة من الحرية ولا سيما بعد سنة 1968، وغداة الخلاص من القمع العسكري المنظم لسكان المخيمات. والعامل الثاني، هو تحول المخيم نفسه من فضاء لصوغ الهوية ولتبرعم الاحلام الى مجرد مكان للسأم والجلوس في نواصي الطرق او في المقاهي الرثة. باختصار، تحول المخيم الى منفى، او الى مكان للعيش اليومي حيث اختفت فرادته، واضمحل فيه، الى حد كبير ، ذلك الميراث الانساني والترابط البشري اللذان جعلا من هذا المكان فضاء للأحلام وللفعل السياسي المباشر معاً.

ومن علامات هذا الضمور في الابداع الادبي والفني ان المرء لا يستطيع ان يعثر اليوم، الا بصعوبة، على اسم فلسطيني لامع في الميدان الثقافي. فالمجتمع الفلسطيني في لبنان، جراء الأهوال التي حاقت به طوال ثلاثين سنة، صار مجتمعاً نازفاً. وكلما ظهرت فيه بعض المواهب الواعدة، فإن الوقت لا يطول كثيراً حتى تستجيب هذه المواهب لنداء الهجرة الى الدول الاسكندينافية او الى دول الخليج العربي. وفي تلك المنافي تعاد صوغ هوية الفلسطيني من جديد. وهذه المرة سيكون المنفى الأوروبي البعيد أحد عناصر تكوين الهوية، بعدما كان يعيش في المنفى العربي القديم. والفارق بين الاثنين ان المنفى العربي (اللبناني) كان يلفظ الفلسطيني ويطرده الى خارج نطاقه، بينما المنفى الأوروبي يقبله بعد عناء الاندماج.

المجتمع الفلسطيني في لبنان ليس راكداً كله. لكن الحيوية فيه مكرسة للنضال في سبيل الحقوق المدنية البسيطة. والناشطون الفلسطينيون، في معظمهم، أوقفوا أيامهم على السعي الى غاياتهم من خلال الجمعيات الأهلية والمدنية خارج اطار منظمة التحرير الفلسطينية. وهذا السعي يلائمه، أكثر من أي أمر آخر، الاعلام، وهو يتخذ من الاتصال وسيلة لنقل مطالبه الى الحيز السياسي اللبناني. وبهذا المعنى فإن الثقافة، بما هي حقل مستقل، تغيب لمصلحة الاعلام. وبناء على ذلك فإن الثقافة تبدو شديدة الانحسار في المخيمات الفلسطينية جراء غياب الرعاية التي كانت تقدمها منظمة التحرير قبل سنة 1982. فلا عجب، والحال هذه، أن تتضاءل النار الهادية بين صفوف الشبان الفلسطينيين، فلا سينما ولا فنون تشكيلية ولا ابداعات جريئة الا بعض الومضات هنا وهناك. ويمكننا أن نضيف الى عوامل الركود الثقافي ما يسمى خيانة بعض المثقفين الفلسطينيين بدورهم الأصلي كأمثولة هادية. فكثيرون منهم، بسبب أمراضهم الفردية المزمنة، صاروا مجرد نمامين وثرثارين. وبدلاً من أن ينصرفوا الى ما ينفع الناس ويبقى بين الناس، راحوا يصرّفون أوقاتهم في خياطة مقولات جاهلة لا علاقة لها بفلسطين او بقضية فلسطين او بالشعب الفلسطيني.