بقلم: رفعت شناعة

فمن رعاهُ وحماهُ وصانَه فكأنما بنى مسجداً في فلسطين، إنه يمتلك القدسية لأنه جزء من أرض الرباط، وهو جزءٌ منَّا، من شخصيتنا، من ذكرياتنا الوطنية والتاريخية، إنه يحمل بين جنباتِه وفي أزقته عذابات آبائنا اللاجئين عندما هُجِّروا من الوطن، في تلك الخيام التي أصبحت اليوم بيوتاً من صفيحٍ، أو لِبّنٍ، أو إسمنت كانت الدموع تنهمرُ حزناً وألماً وشوقاً، أو حنيناً مشتعلاً إلى أجساد الذكريات الساكنة في أعماق الوجدان والخيال، والمرسومة على وجوه النسوة والشيوخ والأطفال، وعنفوان الرجال المُحطَّم بفعل قسوة التشرد والمذلةِ والمهانة والضياع.

المخيم هو جزء من ماضينا، وشاهدٌ على مآسينا، وحافظٌ لذكرياتنا، وملجأٌ لأحلامنا، ومنه الانطلاق نحو تطلعاتنا وبناء مستقبلنا.

المخيم قطعة من فلسطين لكن بعيداً عن التوطين، فكما أن الوطن هو الحافظ لذكرياتنا، وأمجادنا، وتراث آبائنا وأجدادنا، وسجلِّ شهدائنا، فالمخيم الذي يمتلك من العمر سبعةً وستين عاماً، والذي شكَّل حاضنة لسجلات انتصاراتنا، وتحدياتنا، ونزيف دمائنا، وقبور شهدائنا، وحصاراتنا، وآهات نسائنا، هذا المخيم هو القرية التي شُرِّدنا منها، توأمان يكبران وهما متلاصقان مكمِّلان بعضهما لأن التاريخ لا يتجزأ، ولا يتفتت، فهو جسدٌ واحد، ولوحةٌ واحدة مهما اختلفت الأشكال وتباينت الألوان.

من أجل ذلك كله فإنَّ المخيم بكل ما فيه من مآسٍ وحُزنٍ ومجاعةٍ، وعَوز لكنه اليوم هو المركب الذي سيحملنا إلى فلسطين شئنا أو أبينا، وإذا فقدنا هذا المركبَ غرقنا لأن الأمواج مرتفعة، والعواصفُ هوجاء، والمخاطرُ لن تبقي ولن تذر.

المخيمُ هو الحصنُ الأخير لنا، هو القلعةُ التي نتحصَّنُ بها ما قبل الرحيل الأخير إلى المثلث والنقب والجليل.

ونقول لأهلنا في لبنان ثقوا أننا عندما نرحلُ الرحيل الأخير لن نأخذ معنا شيئاً من ترابكم مع حبنا لكم ولأَرضكم، ولكنَّ ترابكم الذي ارتوى بدمائكم، وأيضاً بدمائنا، وألَّف النزيفُ بين قلوبنا وقلوبكم فإن الترابَ لكم وحدكم لأنه ترابكم، لكن اسمحوا لنا أن نلملم رفات آبائنا وأجدادنا، وشهدائنا لنحملها إلى هناك حيث لنا ذكريات. واسمحوا لنا أن نحمل من وطنكم أرزةً كي نزرعها في أرضنا، كي نذكركم دائماً لأنكم أصبحتم جزءاً من تاريخنا، كما أصبحنا نحن جزءاً من تاريخكم.

من هذا المنطلق أريدُ القولَ أنَّ المخيم يمتلكُ نوعاً من القدسية لأنَّ ترابه امتزج بدماء أهلنا وهم ينزفون بسبب القصف والتدمير. وهو أيضاً لوحة تاريخية يجب أن تكون مصدر إعتزاز وفخر لنا، فالمخيم يمتلك أيضاً رمزية وطنية واجتماعية، فكل بقعة، أو حيٍّ، أو زاروب فيه يحكي قصةً وروايةً بطولية أو إنسانية، فهنا فدائيٌّ إستُشهد قصفاً، وهنا مقاومٌ شهمٌ قاومَ الإنزالَ المعادي، وهنا سالت دماءُ مجموعة من الأشبال لأنهم صمدوا وتحدوا وواجهوا الاحتلال، وهنا نزفت دماءُ الاطفال والنساء عندما ألقت طائرات العدو صواريخها على أحياء المخيمات.

علينا أن نفهم أن المخيم ليس قطعة أرض نشتريها ونبيعها، إنه سجلُّ الشهداء، والأبطال، والمواقع، وقصص الثوار.

إنَّ مخيم عين الحلوة، وهو المخيم الأكبر، والأهم سياسياً، والأصلب عوداً لأنه قاوم الاجتياح الاسرائيلي، وأبناؤه كباراً وصغاراً قدموا التضحيات، ثم نهضوا من تحت الركام ليعيدوا البناءَ والحضورَ والتحدي، والنهوض بالثورة من جديد، وفي كل بيت شهيد أو جريح.

أمجادُ مخيم عين الحلوة، ورموزُهُ الوطنية، وسِيَرُ شهدائه، وتضحياتُ أبنائه هي رصيدٌ هائلٌ في ميزان الصراع ضد العدو الاسرائيلي. وهذا ما يجب أن تُدركه كافة الفصائل والقوى الفلسطينية، وهذا ما يجب أن يعرفه كلُّ فلسطيني يعيش في هذا المخيم، فالمخيم ليس ملكاً لطرف او حزبٍ معيَّن، ولا لهذه المجموعة أو تلك بغض النظر عن المشارب الفكرية والعقائدية والسياسية. هذا المخيم هو ملكٌ للجميع، وهو مخيمٌ عظيم بتضحياته، ومقاومته، ومعاناته، وصموده، وقادته، وتاريخه وزعامته السياسية، والدينية، والعشائرية، وبطاقاته الشبابية والمؤسساتية، ولأنه بهذا المستوى من الأهمية التاريخية والسياسية فهو ملك لأبنائه، وهو مخيم لا يمكن تدجينه، ولا يستسلم لأحد، ولأنه اعتاد على مقاومة الاحتلال، فإنه قادر على مقاومة ومواجهة كل من يسعى إلى تدمير هذه القلعة من الداخل من أجل استئصال تاريخٍ وطني طويلٍ وعريض، ومحاولة شطب صفحات وسجلات خالدة.

لا يقبل مخيم عين الحلوة إلاّ بصيغة العيش المشترك، ولا يرضى أبداً بأن تكون الاغتيالات والرصاص والرعب هو السائد، وهو الحكم، وهو العنوان في هذه المرحلة التي تشهد حروباً تدميرية، وصراعات طائفية، ونزاعات مذهبية، وإثنية، ومتغيرات جذرية.

إنَّ المخيم مخيم عين الحلوة يجب أن يقول كلمته التي هي كلمتُه الأصيلة، والتي لا تتغيَّر ولا تتبدَّل، والتي كانت سابقاً وستظل، ويجب أن تظل، وهي أنَّ المخيم مجتمع واحدٌ موحَّد، وأنه رأسُ الحربة في الصراع ضد العدو الاسرائيلي، وأنه لا يسمح لأيٍّ كان أن يحرف بوصلته الوطنية.

ومن يسعى إلى حرف بوصلة المخيم نحو مخاطر التدمير الذاتي، ونسف المفاهيم الوحدوية والوطنية، والتطاول على الهامات الفلسطينية التي صنعت الأمجادَ التاريخية، والسعي الحثيث إلى جرِّ الكلِّ الفلسطيني إلى مستنقعِ التصفيات الجسدية، على هؤلاء أن يفهموا بأنهم يسبحون ضد التيار، وأنهم بممارساتهم الدموية لا يخدمون إلاَّ أعداء الأمة العربية، وأعداء شعبنا الفلسطيني، وعليهم أن يدركوا بأن استهداف أمن المخيم وجرِّه إلى صراعات دموية داخلية هو يصب في خانة تمزيق الصف الفلسطيني، وتضييع حق العودة إلى أرضنا التاريخية الذي يسعى إليه العدو الإسرائيلي.

ولذلك على هذه المجموعات الخارجة عن الإجماع الفلسطيني أن تعيد حساباتها جيداً لأن الدم لا يجرُّ إلاَّ دماً، والقتل لا يجر إلاَّ قتلاً، وبالتالي لا يمكن أن يصمت أهالي المخيم، وهم يُصدمون كل يوم بجريمة هنا أو جريمة هناك، ولن يقبلوا أن يظلوا تحت رحمة من اختار طريق القتل متناسياً أن الشرع الاسلامي يقول بأن من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً.

وأيضاً على هذه المجموعات أن تسمع كلاماً حاسماً وصارماً من الفصائل والقوى الفلسطينية الوطنية والاسلامية المتوافقة على توفير الأمن للمخيم. والمطلوب من القوى الاسلامية التي تمتلك قناة حوار مع هؤلاء أن تصل معهم إلى حلول جذرية واضحة وليست رمادية، وبناء على نتائج الحوار يجب أخذ مواقف عملية جذرية لأنه لا يجوز أن يظل أهالي المخيم تحت رحمة مجموعة خارجة عن الإجماع ومتمسَّكة بمنهجية محددة وهي أن الحوار لا يكون إلاّ بالرصاص من أجل تنفيذ مشروع معين بعيد كل البعد عن تاريخ المخيم، وعراقة أهله، وتراثه الوطني، وقيمه الاجتماعية.

يجب التوصل إلى حلول حاسمة وجذرية لوقف حالة الرعب، ولغة الإجرام، ومجموع الفصائل الفلسطينية الوطنية والاسلامية تعمل سويةً في إطار تنسيقي متفاعل أسفر عن تشكيل اللجنة الأمنية التي تتمتع بقوة تؤهلها أن تفرض هيبتها وقراراتها، وأن تُعطي الأولوية للأمن الاجتماعي.

إنَّ وحدة الموقف بين مختلف الفصائل ووجود تفاهم وتنسيق يجب أيضاً ان يصل إلى مرحلة من الحسم كي تأخذ اللجنة الأمنية دورها الطبيعي بالتواجد في مختلف المربعات والتي معظمها مغلق لصالح جماعات معينة، وهذا الانغلاق الأمني يحمل الكثير من المخاوف المستقبلية، لأن حالة الانغلاق الحاصلة هي غطاء لأنشطة أمنية وعسكرية لصالح جماعات معيَّنة.

هذه قضايا أساسية يجب معالجتها إذا أردنا حقيقة أن يكون مخيم عين الحلوة معافىً، وأن يكون قطعة مباركة من فلسطين على طريق العودة إلى فلسطين التاريخية ، والتأكيد على الرواية التاريخية الفلسطينية.