خاص مجلة "القدس" العدد -315- تحقيق: عدي غزاوي، وسام خليفة- رام الله
ستة وسبعون عامًا ومازال جرح النكبة الفلسطينية ينزف مع أن معظم من عاصروها غيّبهم الزمن بالموت. ستة وسبعون عامًا مرّت رحل فيها من رحل وولدت فيها أجيال جديدة، ولم تعد الأزقة في المخيمات تعرِف سوى الأطفال الذين يركضون لعبًا لا خوفًا كأجدادهم خلال النكبة، لكنك إذا ما سألتهم من اين هم اجابوك بالتفاصيل لكثرة ما سمعوا من قصص رواها لهم من عاصروا النكبة وتجرّعوا من كأس الشتات والهجرة المر، وما زالوا يروونها أملاً في أن تبقى هذه القصص متناقلة عبر الأجيال وإرثًا يعزز تمسّكهم بحق العودة. الحاج شاهر الخطيب: خيبة امل بين تهجير طال وانقسام شتّت القضية
في دكان قديم داخل مخيم قلنديا وبين جدرانه المهترئة ومع آخر ما تبقى لأبي شاهر بعد التهجير، وهو مفتاح العودة الذي يعلّقه على حائط خلفه، يروي لنا قصته مع الشتات والتهجير، فيقول: "في يوم من الايام حاصرَت قوّة اسرائيلية قريتِي البرج قضاء الرملة من ثلاث جهات تاركة جهة واحدة مفتوحة، وأطلقت النار في الهواء لإخافتنا ودفعنا للهرب. هُجّرنا في شهر ايار العام 1948، وكان عمري 8 سنوات. كانت اراضينا مليئة بالمحاصيل التي تنتظر الدرس، وبعد ان قطفنا المحاصيل ودرسناها اتت العصابات الاسرائيلية وقتها وقامت بطردنا من اراضينا، فخرجنا وليس بحوزتنا سوى ما نرتديه من ملابس. وجميع المواشي التي كنا نعتمد كفلاحين عليها في جني لقمة العيش ضاعت، كما دمّروا البيوت، وأحرقوا المحاصيل كي لا نستفيد منها. لذا كنا نتسلل خلسة الى اراضينا والخوف يملؤنا من القتل كي نقطف ما نسد به جوعنا حيث كنا ندرس الحبوب على ايدينا، ولم نستطع اخذ سوى كميات قليلة جدا. حاولنا كفلسطينيين في تلك الفترة مقاومة الاحتلال وارجاع ما سُلِب منا ولكن عندما ذهبنا للإخوة العرب لإمدادنا بالسلاح خذلونا ولم يكن لدينا ما ندافع فيه عن انفسنا او عن الوطن".
ويتابع "مكثنا في اكثر من قرية محايدة لقريتنا وذلك لأملنا ان العودة قريبة وان هذا الاحتلال لن يدوم طويلاً حيث تنقّلنا من صفا الى بيت نوبا ومنها الى خربثا فإلى عين قينيا، ثمّ مخيم قلنديا في العام 1957، وكان عبارة عن خيم موزعة في المكان. في البداية عاملتنا وكالة الغوث بطريقة جيدة لأن الجرح كان ما زال ينزف، ولكن بعد فترة انحرفت عن مسارها وصارت تعاملنا حسب السياسة مع الدول. واخذ الوضع يتأزّم بشكل مستمر خاصة اننا ابتلينا بمصيبة جديدة عملت على احداثها جهات مدسوسة وهي الانقسام الذي بات شمّاعتنا لكل المشكلات التي تواجهنا وانشغلنا به ونسينا القضية الأم فلسطين التي تجمعنا".
ويضيف الخطيب مستغربًا "هل يعقل ان الدول العظمى التي تجتمع بشكل دائم وتعقد المؤتمرات وتتباهى بقوتها عاجزة عن ايجاد حل للقضية الفلسطينية؟ هناك حلول كثيرة اهمها قوة السلاح.  ففي الماضي كان المستوطنون يخافوننا، امّا اليوم فقد وصلنا لوضع اصبح فيه المستوطن هو القوي ونحن الضعفاء امامه لما يجده من دعم من جيشه ودولته في سبيل قمعنا وسلبنا ما تبقى لنا من حقوق، ولكن كلنا أمل بشبابنا الكفؤ الذين سيعيدون الحق لأصحابه، ونحن لدينا شبان ينشدون الموت في سبيل فلسطين. بالطبع انا لا اريد ان اقلل من الدور الذي يقوم به السياسيون، إلا أنه اذا استمر الوضع على ما هو عليه فإنهم سيجدون الشعب غير مهتم بما يفعلون ولن يطيعهم في شيء".
ويختم الخطيب بالقول: "بطاقة وكالة الأونروا هي شيء مؤقت ويوما ما سنعود الى اراضينا. قد لا أشهد أنا ذلك، ولكن عاجلاً ام آجلا سينتفض الشعب من اجل نيل حريته، ولأن هذا الوطن لا يحرره الا الدم".


رائحة صرعة معالمها وزيتونها اشياء لا تفارق الحاجة صبحة
على باب منزلها في مخيم  قلنديا تجلس الحاجة صبحة متكئة على عكازها تارة تراها تمازح الاطفال المارين من امامها وتارة تراها سارحة ببيتها صرعة الذي هجرته منذ اكثر من 60 عامًا قسرًا وخوفًا.
وبشغف لا يخفى تروي لنا قصتها فتقول: "كنا نعيش بسلام حتى اتت علينا دورية اسرائيلية ووقفت على مشارف قريتي صرعة. لم يفعلوا شيئًا في المرة الاولى، ولكنهم حين عادوا في يوم آخر أخذوا يطلقون النار مما اخافنا ودفعنا للهرب للحقول كي نحتمي فيها. وهناك افترشنا الارض لننام، واكلنا مما على الشجر، وبعد ذلك  ذهبنا الى  عرتوف، ثم الى دير ابان، ومنها الى قرية في جبل الخليل تُدعى بيت اولا، فاستُقبِلنا استقبالاً اخويا حيث ترك الناس الذين ذهبنا اليهم بيوتهم لنا، وصنعوا سواتر على الشجر ومكثوا فيها. كنتُ اتسلل الى بلدي صرعة مع مجموعة من النساء اثناء مكوثنا في بيت اولا، وكنت اقطف زيتون ارضي خلسة خوفا على حياتي من العصابات الاسرائيلية. وبعد اربعة اشهر لجأنا الى اريحا طوال فترة الشتاء فإلى جبع، ثم إلى النبي يعقوب، وبعدها قامت وكالة الأونروا بإنشاء مخيم قلنديا واحضرتنا إليه وكان لا يزال فارغًا، فنصبنا الخيم لنمكث فيها مؤقتًا، وهناك عاودت التسلل لقطف الزيتون من صرعة، وفي زياراتي الخاطفة لم اجد شيئًا كما كان، فقد نسفوا البيوت وسكنوا بيوتًا جديدة بنوها، وبعد فترة بنينا غرفة صغيرة في المخيم عشنا فيها انا وابنائي العشرة وها انا حتى اليوم بذات المكان انتظر العودة".
وتستذكر الحاجة صبحة شيئا من الماضي فتقول: " كنا نعيش مع اليهود كالاخوة ونأكل معًا ونشرب معًا ونحتفل معاً، ولكن مرة واحدة تغيّر الوضع وقامت اسرائيل وطُرِدنا من ارضنا. كنت احمل الحليب واذهب الى بلد محادية لنا تسمى عرتوف كان يسكنها اليهود وكنا نتعامل معهم بشكل طبيعي وكانوا مواطنين وهرب جزء منهم من العصابات الاسرائيلية وقت النكبة".
ومن قصص الصمود التي ما زالت تذكرها ان والد زوجها كان مريضًا ولم يترك البلد رافضًا ترك ارضه للمحتل، وبقي فيها 15 يومًا قبل أن يتوفّاه الله، وكانت حماتها تذهب اليه كل يوم الى صرعة تمضي الوقت معه من الصباح حتى المساء الى ان ذهبت اليه في أحد الايام ووجدته ميتًا في بيته الذي رفض تركه.
أمّا عن حق العودة فتقول: "العودة حلمي.. أشتاق لصرعة ولأيامي فيها. عندما غادرتها كان عمري 17 عامًا وكان لدي اطفال، واذكر كل تفاصيلها وتضاريسها. بعمري الذي يتجاوز الثمانين عامًا لن استطيع الرجوع ،ولكن احفادي سيعودون لصرعة.. صحيح انهم لن يجدوا تلك المعالم التي كنتُ اتحدث عنها ولكن الارض ثابتة ولها اصحاب سيرجعون اليها ذات يوم".


أبو ماهر يقاوم بجمع التراث حفاظًا على الهوية والتاريخ
عندما تدخل احدى الغرف في بيت اللاجئ موسى سرحان من الرملة الذي يسكن بلدة بيتونيا ترى غرفة وقف عندها الزمن ولم يتحرك. فكل ما يتعلّق بالنكبة من ادوات تراثية موجود فيها. ترى صناديق تجهيز العروس، وادوات الفلاحة التقليدية، وصحفًا قديمة والعديد من الاغراض التي تروي قصص اشخاص تركوا بلادهم وباتوا لاجئين وعن حبه لتجميع الادوات التراثية و"الانتيكة" يقول: "في العام 1987 كانت الظروف المادية صعبة مما اضطرني للعمل في يافا كنجار للحصول على لقمة العيش لأطفالي، وهناك وجدت ولع الاسرائيليين بالتحف القديمة التراثية الفلسطينية ونسبها لهم ولثقافتهم. وفي إحدى الحوادث دخلت بيتًا محتلاً في الداخل، ووجدتُ صندلاً قديمًا يعود لطفل صغير. عندما رأيته بكيتُ وفكرتُ بذاك الفتى الذي تركه لأنه كان على يقين انه سيعود قريًبا، والان هو قد مات او مازال مهجّرًا من وطنه في احدى بقاع العالم. ومن هنا قرّرت جمع المقتنيات التراثية لأن الحفاظ على التراث هو حفاظ على الهوية والتاريخ الفلسطيني. وبدأت جمع المقتنيات الأثرية بعد العام 2003، وذلك بسبب ظروفي المالية وقتها، ولم يكن لدي مكان لأضع فيه المقتنيات. واليوم لا افكرُ في بيع هذه المقتنيات ابدًا، وبيتي مفتوح لمن يريد ان يشاهد، لكن البيع والاعارة غير واردين لأنها قطع مهمة وما يذهب لا يُعوّض".
ويتابع "عملي كنجار ساعدني على جمع هذه القطع كوني ادخل بيوتًا قديمة فيها قطع قديمة تعجبني اقوم بطلبها من الناس اذا كانوا لا يريدونها او اقوم بشرائها، ولم احسب يومًا كم دفعتُ لأن ما اقتنيه تاريخ وقطع تروي قصص اصحابها، وهي قطع مهمة لما بُذِل فيها من جهد في الصناعة والاتقان وفرحتي تزيد عندما اعرف قصة ما اقتنيه وتزيد معزته عندي".
ويذكر ابو ماهر قصة حدثت مع والده عندما كان مأسورًا من قِبَل الاسرائيليين ايام النكبة، حيث حرموا جميع من في الاسر من الماء لمدة يومين، وعندما اخرجوهم ليشربوا كل من شرب في البداية بقي على الحنفية مائلاً بلا حراك فاكتشف والدي ان المياه مسمّمة، وان كل من شرب قبله مات، ومن حظه انه كان في اخر الصف".
وعن حق العودة يقول: "بعد كل هذه السنين من التهجير اقول ان العودة امر مؤكد، وهي مسألة وقت لا اكثر. وان لم ارجع فإن اولادي واحفادي سيرجعون لأن اسرائيل زائلة لا محالة. اتفاقيات السلام وضع مؤقت مثل حبة الـمُسكّن، لكننا نحتاج لعملية قيصرية تزيل الاحتلال الاسرائيلي".


67  عامًا وجرح الهجرة ما زال ينزف
بين ابنائها واحفادها وكنائنها تجلس الحاجة يامنة من قرية بسسين التي كانت تمتاز بأنها ارض سهلية تعيش على الزراعة والفلاحة. وعن حياتها قبل النكبة تقول: "كنا مزاعين نملكُ الاراضي ونعيش من فلحها. وفي يوم من الايام كنا نجلس في القرية بعد ان قمنا بحصد محصول الشعير، واذا بخبر يأتينا ان العصابات الاسرائيلية قامت بقتل اهالي قريتَي ابو شوشة ودير ياسين وعندما سمعنا بهذا الخبر خفنا على ارواحنا وهربنا من البلد دون معرفة اي شيء، وما الذي يحصل، ولجأنا الى قرية دير آبان وبالتحديد الى ان مغارة في جبل حيثُ مكثنا  أحدَ عشر يومًا، ولم يكن معنا ما نأكله أو نشربه أو نلبسه. وفي تلك الفترة تُوفيت جدتي لأبي، فدفناها بدون كفن او غسل لشح المياه، وبعدها قرر اخي أحمد ان يذهب للبلد كي يتقصّى الاخبار وامكانية الرجوع، ولكنه اطال الغياب كثيرا حتى باتت حالة والدي سيئة لإحساسه بالذنب لتركه أخي يذهب، خاصة بعد ان كانت الاخبار تصلنا كل يوم عن مقتل شبان على ايدي العصابات الاسرائيلية. ومضت عدة ايام إلى جاءنا أشخاص بجثة أخي محمّلةً على جمل. وقتها اصابنا حزن كبير، واذكر ذاك اليوم كأنه اليوم. كنا كالضائعين أنُفَكِر في اخي الشهيد ام في الوطن المسلوب ام في انفسنا المشردة في الجبال، وبعد ذلك تنقّلنا في اكثر من منطقة نبحث عن مكان نجد فيه المأوى، واذكر ان اهل بلدة عناتا كانوا من اكثر الناس الذين اهتموا بنا وآخونا وساعدونا في تشردنا وما كنا فيه من ضياع، فكانت بيوتهم مفتوحة لنا، وبقينا على هذه الحال حتى سمعنا ان وكالة الغوث انشأت مخيم قلنديا فذهبنا اليه وها انا لليوم في نفس البيت الذي بنته الوكالة انتظر العودة لبسسين".
وتضيف الحاجة يامنة بكل حسرة "لم نستطع اخذ اي شيء، وكنا من الناس التي تملك ارزاقًا كثيرة. الشيء الوحيد الذي اخذناه كان الجمل الذي حمل جدتي التي توفيت بعد 11 يومًا من التهجير. يقينًا أننا سنعود إلى بيتنا قريبًا قمنا بتخبئة مفتاح البيت في احدى "الحبلات" القريبة اليه".
وتردف "بعد عدة سنوات واتتني الجرأة وزرتُ البلد ورأيتها مهدمة لا يوجد فيها أحد، فقط بيوت مهجورة واراضٍ خالية من اصحابها، فشعرتُ بالحزن وقتها على ما رأيت، ولاحقًا قمتُ بزيارتها عدة مرات وهذا تقريبًا منذ 30 عامًا. اما الآن فأنا غير قادرة على زيارتها ولكن الحزن على الارض ما زال على حاله، وكأن ما حدث حدث اليوم. في تلك الفترة لم يكن الناس يملكون السلاح للقتال وكانت الاشاعات منتشرة عن المذابح في القرى وكان هم الناس النجاة بحياتهم والعودة في وقت قريب".
وتختم كلامها بنبرة حزينة مشخّصةً نظرها إلي وممسكة بيدي، فتقول: "من يترك بلده وارضه لن  يعرف السعادة. عشتُ في المخيم احلم بالعودة لبيتي ولكن لليوم لم ارجع. قد يرجع ابنائي واحفادي لبلدهم اما أنا فبعد هذا العمر اجد ذلك صعبًا".