بقلم: محمد سعيد

زمن بيروت ليس لي

زمن بيروت ليس لغيري

زمن بيروت ليس لأحد

سأضعه مع حبة القمح لينمو في خزانة

سأجعله يناديني: أيها الغريب

أنت أيها الحبّوب: ألم تملّ اللجوء

سأقول له كل أحرف الجواب: بلى، نعم، أجل، بجل. مللت العفاريت، والعناكب، وضغط الدم، والمسكنات، واكتشاف الأوطان والأعياد الوطنية وأعياد الاستقلال، مللت أعصابي المتوترة واليأس، مللت الأمل لكثرة ما ربّيته، مللت أزيز الرصاص في أذني، مللت الابتهاج بكل شيء ما عدا الابتهاج بالوطن، مللت من أصابعي على الزناد وصورة الفلسطيني المشرد، مللت من كلمة لاجئ وصورتي على الهوية الزرقاء، مللت العواء بدلاً من الغناء، مللت الصراصير والحشرات قرب ربطة الخبزِ، مللت الإهانات والشائعات والتهم وكل كلمة تذكّرني بناطحات السحاب على أبواب المخيم.

ألا تعود عقارب الساعة الى الوراء؟

ألا يعود الزمان الى الوراء الا في شريط الذكريات.

لم تتغيّر بيروت

أنا لم أتغيّر

انتهى فصل الودّ

هي ذهبت لتعيش على وهج قنديل فائر

وأنا ما زلت أرمي شباكي باسم الوطن الغائب في بحر انتشاري.

2

مُشَعْوذٌ أنت

مجنونٌ أنت

أهبلُ

تَذْكرُ بشراسة حلمك القديم بتحرير الوطن من صبرا وشاتيلا وبيروت "الغربية"، ليس كلّ بيروت الغربية، مروراً بالشريط الساحلي، الى الناقورة، وبالعصافير والاشجار العارية والمكسوة، وزهور خيالك الواسع.

آه كان شعرك أسود كالفحم، وعنفوانك كالصوّان، وخطواتك واثقة. لكنك في أحلامك كنت تنطح السماء.

3

خطواتي المسرعة تحت سماء الماضي تضيع خلف ضباب الضفاف الطويلة المكتومة بصفحات كلما لمسْتُها تحرّك مفتاح الزمن في قلب بيروت الابيض.

كأن بيروت شجرة حنيني وأغصان اللوز التي أفرفطها على جروحي.

كأنها الباب الذي دخلتُ منه في الوقت الضائع، ونسيتُ وجودي على سطحها البارد.

بيروت التي أغلقتْ بابها خلفي ونزفتْ دمنا حتى بوابة الرحيل.

لديّ ما يكفي من ذكريات بيروت.

غير أن في سمائها قمر مجهول ليس بوسعي أن أفكّ طلاسم كلماته ما عدا كلمة واحدة اسمها فلسطين. كلمة ثقُلت الأيام بها وأكلتْ من لحمنا ولم تتراجع.

بيروت التي حملَتْ أحلامَنا المضيئةَ وشمسنا وقهرنا وعبثنا ووجعنا ونضالنا وشِعْرَنا، ما جعل يومياتنا في ذلك الزمان مفتَرَسةً في ممرّات الفاسدين في الأرض، العدميين المدججين بالفواجع المنافقين باسمك يا فلسطين، ما يدفعنا الى الانعتاق من القضايا الحجرية.

أتذكّرُ من وقتها، الى أن أصبحَتْ بيروتُ تتراكم في أنفاسي كحائط، وتظلّلني بسائلٍ لا يجفُّ كما تجفُّ عادةً الماء. بل حملَتْ معي ثِقَل القتال، ولم تخسرْ بهجةَ الألق وترنيمة العصافير.

في بيروت كبُرَ الحُلمُ، بيروت المكان واللامكان، الحُلم المنظور في الظلام، بيروت اللا أحد وكل أحد، بيروت القديمة، النهر المجهول، والسقف الذي ترفرف تحته حكايات الاغتراب والحرب والحياة التي سار عليها الكثيرون.

4

تحت زخات مطر تقطّر على أجساد النائمين ماء بارداً في الليالي الشاتية، تحت سقوف الواح الزينكو الملقاة فوق أربع جدران في بيوت الحمام المشيّدة على بقعة صغيرة من الأرض، كانت بيروت قلبنا الساخن، والحياة اليومية مع الدماء والحروب، والخطوات المغروزة في الثلج والوحل والتفاصيل الضائعة، تحت تأثير الجغرافيا والتاريخ.

كان الفلسطيني لاجئاً.

صار الفلسطيني  فدائياً.

تغيّرت الكلمات والصفات، بدأ يلمع نجُمنا في العالم، صرنا أحراراً وثواراً، وأبطالَ حرية وإقدام، ابتكرنا أبجديّة تتخطى الحقول الجافة، لم تعد كلمة لاجئ  - العنصرية المكروهة – عقدة فاقعة تزنّر نقاشات البعض. صرنا أبناء فلسطين – وهذا ما نحبُّ أن نُسمّى به – الذين يريدون العودة، وتحرير الأرض. كانت بيروت تلبس فستاناً معرّقاً بألوان العلم. تلاشت المسافات بين الناس. الرصيف ينبض منذ الساعات الأولى للصباح بأوجه تتألق مع هبوب العواصف. كان الماضي صديقاً لحبر من ماتوا من أجل الوطن، والحاضرُ ضوءاً يتمدّد من بيت لبيت، كانت بيروت تطير من الفرح، وتواصل طوافها اليومي بحثاً عن بقية البحر والخيول حتى لا تفقد ذاكرة الحنين، كانت تودّع كل يوم بصمتٍ وقلب نازف أبطالاً تنسكب على شجرة حياتهم ذكرياتُ زمنٍ تلبّس مخيّلة البلابل.

بيروت دلال المغربي وكوزوموتو وليلى خالد وغسان كنفاني، ووكالة وفا، واذاعة فلسطين، وشوارع المكاتب، وشظايا الاحزان، ونوبات الجحيم الملبّدة فوق انسانيتي كوحش يريد ان يعبّ دمي، ويحقن حياتي بسموم غادرة. بيروت الحواس والهاجس الأصعب، وجدنا في حضنها  دفئاً لا ينضب.

5

كبُرتْ بيروت كبُرتْ

كانتْ تهتزّ تحت زئير الطائرات.

كنتُ أتخيّلُ ان صاروخاً سيقصّ رأسي وأنا أركض تحت جسر الكولا أو إلى مداخل البنايات، أو الى أقرب ملجأ وراء أكياس الرمل.

كانت بيروت تهتزّ كشجرة تمرجحها العواصف.

كانت بيروت الفاكهاني منطقة الكولا مدينة الفدائيين، مائلة الى الخسران والبهتان، كانت ترتّب مواعيدها كي تستدرج قرقعة الحرب الى غبار الأنقاض على مقربة من خطوط الاشتباك.

كانت كوفيّةُ فلسطين تكتُبُ على كتفيها صورتَها الغامضة، بعد تجريحها بشظايا الجريمة ومخالب أطلّت برأسها من كل النوافذ لتهديم صورة الفدائي المعشوق وكسح دمائه في شوارعها شارعاً شارعاً، ومبنىً مبنىً. كنا نخاف على بيروت، والآن نخاف منها، تغيّر وجهها، صارت مكرّرة آيلة الى العدم، لم تعد كما كانت، خرجت منها الروح والحياة الى غير رجعة. لا يمكن أن أميّز بين صورتها اليوم والصورة المطبوعة عنها في ذهني، الصورة الآن مقلوبة.

كانت بيروت تضجّ بالحركة. هي صورة مصغرّة من العالم، هي الآن تنمو بدون رغبة أحد، انقلبت حياتها وتاهَ عالمُنا الغريب، يوم كنّا لا نعرف الوقت كيف يمضي في بوتقة الحياة الثورية. الحركة، العنفوان، "فتح الغلابة"، القيادات، المكاتب، الفدائيون القادمون، الفدائيون الذاهبون، رنّات الاصوات المحببة، الألفة، كل شيء بين يديك، لا تعقيدات، حرية في الاختيار، حرية في القناعات، القائد أمامك، الخندق أمامك، الموت أمامك، الحياة أمامك، بيروت الجريئة الجريحة أمامك، بيروت، انتهتْ هناك. انتهت بطعم آخر، وشكل آخر، وخطاب آخر.

6

الصوتُ صارخ.

الألفاظ لم تعد مواربة.

لا يمكنك أن تكون مدنياً وعسكرياً.

لا يمكنك أن تكون شهيداً بطلاً تتسلّلُ في الغابات لتعثر على الوطن بدلاً من تسلق الاشجار، والركوب على الاغصان والمشي في المدينة كأنّ مفاتيح بيوتنا معك.

ينظرون إليك بعيون هادئة.

عليك أن ترحل عليك الاغتراب بلا إرادة ولغة وسلاح الأمل والعودة وإلا ستصبح عارياً، وهو أسهل الأساليب لكي تصبح نقطة في آخر السطر.

عليك التمييز بين الفلسطيني والآخر، عليك أن تميّز بينك وبين نفسك، بين الـ 48 والـ 67، بين الحياة المزرية في مخيمات الشتات، والحياة في أسفل المنحدرات، عليك أن تفرّق بين أشعار محمود درويش وبين شخصه، وبين وطن تراه في ذاته، وبين أرضٍ محتلة، عليك أن تميّز بين مفاهيم كثيرة، كالرأي العام ورأي الأغلبية، بين السلطة والدولة، بين القاعدة الشعبية والأمم المتحدة، عليك أن تأتي بمنطق آخر وأسلوب آخر، بين أن تفعل وأن تعقل، عليك أن تنتكس وأن ترتكس، بين أن تهجر وأن تتهجّر.

عليك أن تسير الى العزلة،  الى أسفل منزل وتدفن في سرك أجمل أوقات الذكريات. عليك أن لا تنال شيئاً.

7

كانت بيروت مزهوّة

بيني وبينها عِشْرة عمر

نفترش حيث يحلو لنا وجعنا المنهار في لوحات تصافح وجوه الاشجار.

ونتبادل حوارات صارت أحلاماً مؤجلة الى الأبد.

بيروت تضحك وتلعب وفي قلبها ضجر فارغ من ظلال المصابيح المدمرة.

بيروت لا تُنسى.

بيروت مدينة ترفع الرأس لا مدينة ترفع الضغط.