1 –  الإعمار والأمن
افتُتح في القاهرة في 12/10/2014 مؤتمر دولي لإعادة إعمار قطاع غزة، وتبارى الحاضرون في إغداق الوعود والتلويح بإغراق فلسطين بالنقود. ولم يكد هذا المؤتمر يختتم أعماله حتى كان في جيب الرئيس محمود عباس 5.4 مليارات دولار، ورقياً بالطبع، أكثر من نصفها مرصود لقطاع غزة، والباقي لأمور التنمية في فلسطين. وكانت قطر وعدت. بمليار دولار، والاتحاد الأوروبي بـِ 568 مليون دولار، والسعودية بـِ 500 مليون دولار، والكويت بـِ 200 مليون دولار، والامارات بـِ 200 مليون دولار والولايات المتحدة بـِ 212 مليون دولار... فيا للكرم العجيب. وأكثر ما نخشاه حقاً أن يكون هذا المؤتمر على غرار مؤتمر المانحين الذي عُقد في آذار 2009 في شرم الشيخ لإعادة إعمار ما دمرته عملية "الرصاص المسكوب" في القطاع نفسه. وكالعادة، تعهد المؤتمرون تقديم 4.5 مليارات دولار. وظلت هذه المبالغ حبراً على ورق، لأن المانحين رفضوا التعاون مع حركة حماس المتشبثة بسلطتها في غزة.
صحيح أن إسرائيل لم تحضر مؤتمر القاهرة، لكن "ملائكتها وشياطينها" كانت حاضرة بقوة كالولايات المتحدة الأميركية. وبات واضحاً أن من غير الممكن إعادة إعمار غزة من دون أن يكون لإسرائيل تأثير معين. فإسرائيل تريد فرض آلية رقابة دولية على تنفيذ خطة الإعمار بذريعة عدم استخدام أي مواد للأغراض العسكرية. ودول العالم المانحة، في معظمها، تريد تهدئة عسكرية متينة وثابتة لأنها لا تريد أن يُعاد تدمير ما أعيد بناؤه، ولا ترغب، على الاطلاق، في أن تذهب أموالها إلى حماس. وبهذا المعنى فإن فشل الإعمار أو نجاحه بات يعتمد على طرفين: اسرائيل وحماس؛ إسرائيل لأنها تتحكم بالمعابر (كرم أبو سالم وإيريز) ولديها شروطها التي لا تنتهي، وحماس التي عليها ان تسلم المعابر إلى السلطة الفلسطينية. ومن دون حل مشكلة المعابر، فلن يكون لإعادة الإعمار أي أثر، وستتطاير جميع الوعود الدولية هباءً.
إذاً، لا بد من تستعيد السلطة الفلسطينية حضورها الفاعل في قطاع غزة. والحضور الفاعل يعني إلغاء أي ازدواجية في السلطة، بل أكثر من ذلك إلغاء أي تسلط لحركة حماس على الشؤون العامة في القطاع. وعلى حماس أن تتحول، وبسرعة، إلى حركة سياسية، وتسلم سلطاتها كلها إلى الوكيل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. أما إذا ظلت حماس تتصرف في القطاع كأنها هي الحكومة الحقيقية، وإذا بقيت أجهزتها الامنية تتحرك على هواها، فستفشل عميلة الإعمار بالتأكيد، لأن الإعمار ليس مجرد خطة فنية، بل هو عملية سياسية بالدرجة الأولى، علاوة على أن الإعمار والتهدئة العسكرية متلازمان، وفي أول يوم تسقط فيه التهدئة سيتوقف الإعمار فوراً. وعندما تتقدم السياسة على العمل العسكري فعلى حماس أن تخلي مواقعها لمنظمة التحرير الفلسطينية، فوراً، وللسلطة الفلسطينية بالتحديد.
2 – المفاوضات المقبلة
في المرحلة المقبلة، ربما تصبح العودة إلى طاولة المفاوضات المباشرة أمراً ملحاً ومن المتوقع أن تخوض حماس قريباً مفاوضات غير مباشرة مع اسرائيل في شأن مبادلة جندي اسرائيلي (أكان جثة أم أشلاء) بعدد غير محدد من الأسرى الفلسطينيين. والخطير في الأمر أن المفاوضات ستجري برأسين بدلاً من أن يكون مرجع التفاوض واحداً: فالسلطة ستفاوض على الطاولة بأوراقها المعروفة، وحماس ستفاوض تحت الطاولة على الجندي شاؤول آرون الذي فقد في حي التفاح في شرق غزة، علاوة على جندي اسرائيلي آخر اختفى في مدينة رفح يدعى غولدن هدار. وللأسف فإن حماس ما برحت مصرّة على أن المفاوضات في شأن الأسرى ستكون منفصلة عن المفاوضات المباشرة بشأن التسوية السياسية، الأمر الذي يبرهن، للمرة الألف، أن حماس تفضل تحقيق مكاسب لها كمنظمة على تحقيق انجازات على المستوى الوطني العام. وربما يضيع الإعمار في خضم المفاوضات التي ستجري برأسين.
ماذا يعني التفاوض المنفصل في قضية الأسرى إلا القول إن حكومة التوافق الوطني شكلية، وليست جدية، ولا حول لها ولا قوة في غزة، وإن الكلام على الوحدة الوطنية ما هو إلا جوز فارغ؟
3 – مجلس العموم وفلسطين
إن اعتراف مجلس العموم البريطاني بالدولة الفلسطينية المستقلة، وقبل ذلك اعتراف السويد بحق الفلسطينيين في الاستقلال بدولة حرة وسيدة يبرهنان، بصورة جلية، أن ثمة عاصفة سياسية بدأت تتجمع في سماء اسرائيل، وأن هذه العاصفة آتية بلا ريب، وستهب في وجه إسرائيل في حقبة ليست بعيدة. هذا ما حدث في جنوب افريقيا، حين راحت دول العالم الغربي تعترف، بالتدريج، بحق السود في العيش كمواطنين أحرار، وشرعت في اتخاذ اجراءات عملية وسياسية ضد التمييز العنصري، وبدأت تمارس الضغط على الحكم العنصري للانتقال إلى الحكم الديمقراطي. ورويداً رويداً وجد نظام الفصل العنصري نفسه غير قادر على الاستمرار في حكم دولة جنوب افريقيا في عالم يقاطعه سياسياً واقتصادياً، ويفضحه إعلامياً في كل يوم، ويتعرض لمقاومة عسكرية ونضال سياسي شجاع تحت قيادة  المؤتمر الوطني الافريقي، حتى لو كان زعيم المقاومة في السجن (نيلسون مانديلا). ولعل الأمور تتشابه في جوانب كثيرة؛ فالفلسطينيون واقعون تحت حكم الاسرائيليين بقوة الاحتلال، وثمة تمييز عنصري لا جدال فيه، وشعوب العالم وهيئاته ومنظماته شرعت، منذ فترة، في مقاطعة هذا الاحتلال، والشعب الفلسطيني يقاوم بشتى أشكال المقاومة، ومناضلوه في السجون، وظل زعيم هذا الشعب وقائد مقاومته (ياسر عرفات) محاصراً في مقره إلى ان اغتاله الاحتلال. وهذه الأمور كلها كانت تجري على مسمع شعوب العالم كلها. فإلى متى تستطيع اسرائيل أن تتصدى للإرادات الدولية وتدير ظهرها للتحولات الجارية اليوم في العالم كله؟
الإرادات الدولية طريقها طويل، لكنها ضرورية جداً للانتصار النهائي. ومتى تصبح قضية فلسطين جزءاً من السياسة الدولية، لا مجرد مشكلة سياسية، وعندما تصبح السياسة الاسرائيلية عائقاً أمام مصالح دول العالم في هذه المنطقة، وحين يبدأ العالم في مقاطعة الاحتلال الاسرائيلي ومعاقبته، فهذا يعني أن علامات الانتصار بدأت بالظهور. لكن العلامة الحاسمة هي إرادة الفلسطينيين  نفسها وتشبثهم بأرضهم والإصرار على المقاومة والصمود. وأكثر ما نخشاه اليوم، في خضم التحولات المتسارعة في العالم العربي كله، أن تتبدد علامة النصر الجديدة (قرار مجلس العموم البريطاني) جراء الطرائق المتعاكسة في معالجة الشؤون الفلسطينية كالإعمار والتفاوض، علاوة على استمرار الانقسام.