الثمن الباهظ الذي يدفعه أهلنا في قطاع غزة بمواجهة غطرسة الاحتلال ودمويته منقطعة النظير، وجنونه العنصري المشحون بالاحقاد السوداء والكراهية المتجذِّرة للانسان الفلسطيني، هذا الثمن لم يقنع المجتمع الدولي بعد لممارسة الضغوط على الكيان الاسرائيلي لوقف مجازره ومذابحه بحق الاطفال والنساء، والمستغرب خلافاً لما جرى في الاعوام السابقة أنَّ الوقاحة السياسية وصلت إلى درجة تقديم غطاء كامل وعلني لنتنياهو لاستكمال متطلبات العدوان من قصف بري وجوي وبحري، ومن استهداف مركَّز للأبنية السكنية، وتعمُّد قتل عائلات بكاملها حيث أبيدت أُسر بكل أفرادها فاق عددها الستين أسرة على الأقل، كانت قبل لحظات تعيش مثل باقي البشر وخلال لحظات أصبحت تحت الانقاض، وأطفال أجسادهم ممزَّقة، أو محترقة، أو متحللة، وأمهات حزانى أرامل أوثكالى في حالة جنون أمام مشاهد لا يطيقها بشر، ولا يستطيع فعلها إلاَّ حكومة نتنياهو الدموية التي تألقت في عنصريتها وهمجيتها، وتستحق على ذلك شهادة تقدير من الاطراف التي سَّهلت الجريمة، واعتمدتها نهجاً لتركيع الشعب الفلسطيني، وتصفيته وابادته جسدياً، مقدمة لتصفية قضيته الوطنية، نتنياهو لا يتحمل وحده تبعات هذه الجرائم، وانما السيد أوباما ومندوبه إلى المنطقة وزير خارجيته كيري، وحلفاؤه الاوروبيون والاطراف العربية التي ارتضت ان تكون صامتة أمام الغطاء الدولي الذي تم توفيره (لرجل السلام) نتنياهو ليضع السلام الاسرائيلي المدمِّر في المنطقة على حساب أهلنا وأطفالنا، هذه الاطراف التي وافقت على استمرار العدوان ونزيف الدماء، وكانت تعطي علناً وليس سراً الفرصة تلو الفرصة لنتنياهو كي يستكمل خطته المرسومة والمتفق عليها مع واشنطن، وتحقيق الأهداف المقررة. هذا الموقف الاميركي والدولي الذي احتضن نتنياهو وحكومته المتطرفة تعمَّد اليوم محاسبة الشعب الفلسطيني وقيادته على تمسكها بمواقفها المبدئية المتعلقة بنيل العضوية لدولة فلسطين، وانضمام المنظمة إلى المؤسسات والهيئات والمعاهدات الدولية، شعبنا لن ينسى هذا الموقف التآمري على الانسان الفلسطيني وقتل ما يزيد على 1300 وجرح ما يزيد على ستة آلاف وخمسماية، واشنطن التي حاربت الحقوق الفلسطينية، واستعْدت العدالة الفلسطينية، والتي انحازت بما فيه الكفاية إلى جانب الكيان الإسرائيلي جاءت اليوم وفي أحلك الظروف لتعلن مباركتها مع حلفائها لما قام به جيش الاحتلال في إطار سياسة عدوانية لا تقيم وزناً للشرعية الدولية، ولا لقرارات مجلس الأمن، ولا تحترم حقوق الانسان.
الأنكى من ذلك أن نتنياهو بدأ العدوان واستمرَّ به لغاية الآن تحت شعار الدفاع عن النفس، وأنه هو الضحية وليس الفتى محمد حسين أبو خضير ابن شعفاط في القدس، أو ليس اكثر من خمسماية طفل قتلوا قصفاً وحرقاً ودفناً تحت التركام، إضافة إلى النساء والرجال، كل هؤلاء بنظره جلادون وحضرته الضحية، والمشكلة الاكثر تعقيداً ان الولايات المتحدة وأوروبا تعاطوا معه على أساس أنه ضحية، وانه يدافع عن نفسه، وهذا ما وفَّر له فرصة شرب المزيد من الدم الفلسطيني.
الحقيقة التي لا نستطيع أن ننكرها ان هذا العدوان على قطاع غزة الفلسطيني، والذي هو جزء لا يتجزأ من أراضي الدولة الفلسطينية تجاوز حدودَه الجغرافية ليصبح حرباً على المستوى الأقليمي إن لم يكن اكثر، وللأسف إن التباينات السياسية بين الاطراف الأقليمية استيقظت، وأطلَّت برأسها، وراحت تبحث عن المكاسب الخاصة بها على حساب دماء أطفالنا ، ونسائنا، وضحايانا، ومآسينا، وهذا ما جعل هناك إجماعاً على إعطاء وقت إضافي لنتنياهو للقيام بمهمته كاملة ورسم الخطوط الاستراتيجية لمشروعه في تصفية القضية الفلسطينية مع توزيع المكاسب على المقرَّبين مقابل تآمرهم أو صمتهم أو ضغوطاتهم السياسية والمالية على الجانب الفلسطيني، ولعلَّ هذا ما دفع الرئيس ابو مازن تحديداً للقول بأننا لن نسمح بدفع ثمن التجاذبات الاقليمية من دماء أطفالنا، لأنه وكما قال بأن قطرة دم من طفل فلسطيني تساوي العالم بأسره فالتجاذبات الاقليمية الطاغية إقليمياً هي التي شغلت بال الرئيس، وادرك منذ البداية بأنَّ شعبنا هو الذي سيدفع الثمن لأنه الحلقة الأضعف، ولأنَّ حالة التشرذم القائمة هي التي تشجع الأطراف الخارجية على التدخل في شؤونها الداخلية، ولذلك منذ البداية طلب الرئيس أبو مازن من المصريين إطلاق مبادرة لوقف العدوان من أجل حماية شعبنا، وعدم إعطاء الفرصة للجزَّار نتنياهو أن يسفك دماء أهلنا، لكن للأسف تمت محاربة هذا التوجُّه القيادي، وبالعكس أعطيت الفرصة كاملة وما زالت لجيشه كي يحوِّل أحياءً بكاملها كانت عامرة بأهلها لتصبح أثراً بعد عين. من أجل أطفال ونساء غزة لم يترك الرئيس عاصمةً ذات شأن في القرار المتعلق بوقف العدوان إلاَّ زارها، ووضع النقاط على الحروف، وطالب الجميع أن يرحموا شعبنا، وأن يوقفوا العدوان الظالم، إلاَّ أنَّ المصالح الذاتية والمكاسب السياسية، والرغبة في إرضاء السيد الاميركي كانت اكبر من دمائنا، واهم من مآسينا، واستمر النزيف. وما كان يخشاه الرئيس أبو مازن حقيقة هو أن تنتقل قضيتنا كشعب من أيدينا إلى أيدي أطراف إقليمية، ونفقد بذلك قرارنا المستقل لتصبح قضيتنا في أسواق البيع والشراء.
بالتأكيد أن نتنياهو قرأ الوضع الدولي والعربي والفلسطيني جيداً قبل الاقدام على هذا العدوان، وأيقن أن المجتمع الدولي بعد اختفاء المستوطنين الثلاثة لا يستطيع الاقدام على اتخاذ إجراءات ذات أهمية ضد أي عدوان إسرائيلي، كما أن الرباعية الدولية فقدت دورها كإطار، كما أن الدول العربية تعيش صراعات داخلية، وهي منشغلة بما تتعرض له من مخاطر، ومن ضغوطات، ومن تحالفات، وهي بالتالي تتسابق لإقامة علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لضمان وضعها الأمني والاقتصادي. ولا شك أن نتنياهو كان يراهن على نزاعات بين القوى الفلسطينية عند نشوب المعركة، وأن ذلك التفكير بحد ذاته كفيل بإضعاف القرار الفلسطيني الجامع، وما عزَّز ذلك هو التدخلات الإقليمية بالشأن الفلسطيني، والضغط الاميركي وحلفائه من أجل إفشال المبادرة المصرية ومحاولة تعويمها، وهذا ما كشف عنه جون كيري عندما طلب من مصر أن تكون المبادرة ثلاثية مع قطر وتركيا وهو يعرف أن مصر سترفض ذلك، لأنَّ هناك خلافات بين هذه الدول التي تربطها علاقات مميزة مع حركة حماس، ولها أيضاً علاقات مع م.ت.ف. الموقف الفلسطيني أكَّد التزامه بالرعاية المصرية خاصة أنها هي التي تتابع هذا الملف منذ البداية، وأيضاً لأننا لا نريد الدخول في متاهات جديدة وشعبنا تحت النار.
كلنا يدرك أنه لو أخذت المصالحة وضعها الطبيعي وتم التعاون لاستكمال كافة الاجراءات، وإعطاء الفرصة المناسبة لحكومة الوفاق الوطني كي تأخذ دورها الميداني في معالجة كافة القضايا لما تجرأ نتنياهو على شنِّ هذا العدوان بهذه الطريقة، والمصالحة ستظلُّ مُستهدَفة لأنها هي بيت القصيد، وهي جوهر الموضوع الفلسطيني، ولا نخطئ إذا قلنا إن أحد أهم أهداف هذا العدوان هو ضرب المصالحة الوطنية، وإعادة فرض الإنقسام على الساحة الفلسطينية، واخراج قطاع غزة من الوحدة الجغرافية الوطنية التي تشمل كل الوطن. وهذا يتطلب عدم التردد في تعزيز هذه الوحدة، وفي إنجاح مهمة حكومة الوفاق الوطني، وبعد الدم الذي سال في قطاع غزة لم يعد مسموحاً لنا كفلسطينيين إلاَّ أن نكون قيادةً واحدة موحَّدة حول برنامج سياسي واضح نُجمع عليه ثم ننطلق في كفاحنا ضد الاحتلال على كل الأصعدة لتحقيق طموحات شعبنا وآماله.
وفي الوقت الذي تعمل فيه حكومة العدو على تنفيذ مخططها بتوجيه الضربات العسكرية الاجرامية على الاحياء المدنية، والمحافظة على الجبهة الداخلية، وعلى التحالفات القيادية القائمة ، والعمل إعلامياً على كسب الجمهور الاسرائيلي المُعجَب بقتل الاطفال والنساء، والمعجب أكثر بشخصية نتنياهو الدموية التي ترضي طموحات 80% من الجمهور الاسرائيلي على الاقل، والمحاولة الدائمة لكسب الولايات المتحدة التي تؤمِّن الغطاء للحروب العدوانية على الشعب الفلسطيني، فلا يجوز لنا نحن كفلسطينيين ان نخوض معاركنا ضد اسرائيل بالانقسامات والصراعات، وغياب البرنامج السياسي الذي يوحِّد الرؤية السياسية الاستراتيجية، وأساليب وأدوات المواجهة ضد الاحتلال.
في الصراعات، كل طرف يحاول استخدام أسلحته المناسبة والفعَّالة، وأن لا ينجرَّ إلى المربع الذي يريده عدوُّه. ومن أجل ذلك علينا أن نحدِّد معاً وبحضور الجميع كيف سنواجه الاحتلال، وفي أي المجالات.
لا شك أنه إضافة إلى المقاومة الشعبية هناك المؤسسات والقوانين الدولية التي أصبحت أبوابها مفتوحة، وهناك طواقم مُكلَّفة من سيادة الرئيس مهمتها دراسة الانظمة والقوانين في كل مؤسسة من المؤسسات، ومن خلال هذه المؤسسات الدولية يمكننا مقاضاة الاحتلال ومحاسبة قيادته التي كان لها دور في إرتكاب المجازر، وتأتي في أولوية هذه المؤسسات المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية ومجلس حقوق الانسان.
شعبنا الفلسطيني قدَّم الضحايا و قدَّم أغلى ما عنده من الشهداء والجرحى وهذا كله دَيْنٌ في أعناق القيادة الفلسطينية، فما هو المطلوب من القيادة تجاه الشعب الذي صمد أمام العدوان؟ لا شك أن الدَّيْنَ كبير والوفاء به يحتاج إلى إصرار وتصميم على وضع المصالحة الوطنية العليا فوق المصالح الحزبية والفصائلية، فالعدو لم يميِّز في الاستهداف، لأنه يستعدي كل الشعب الفلسطيني، وهذا يقودنا إلى توحيد الموقف سياسياً كما وحَّدناه عسكرياً عندما تشكلت غرفة عمليات واحدة يتمثل فيها كتائب القسام وكتائب الاقصى وسرايا القدس، وكتائب الشهيد أبو علي مصطفى والكتيبة الوطنية، وغيرها، قاتلنا معاً جنباً إلى جنب، واليوم المطلوب أن يكون الموقف موحَّداً بالنسبة للقضايا المطلبية المتعلقة بالقطاع ومستقبله والحياة الاجتماعية فيه. وعلينا أن لا نختلف حول هذه المطالب التي ثمنها التضحيات والشهداء، وحتى لا نختلف يجب أن تكون مطالبنا تصبُّ أولاً في ترسيخ الوحدة الوطنية، وثانياً في عدم العودة إلى الانقسام مهما كلَّف الامر، وفي النضال من أجل دولة فلسطينية مستقلة تضم الضفة وغزة، وهذا يستدعي الشراكة السياسية الحقيقية، واعتماد الديموقراطية في العلاقات والتعبير، وفتح المجال أمام الحريات.
وعلينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي: اذا كان نتنياهو يقول أنه لا يريد احتلال قطاع غزة، فماذا يريد إذاً من القطاع؟ ولماذا استخدم هذا العنف كلَّه؟
بقلم: رفعت شناعة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها