الشهداء لا يموتون لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، هم يموتون أجساداً لأنَّ كلّ من عليها فان، لكنَّ أرواحهم خالدة في جنان الخلد والرضوان.
هم بشر لكنهم ارتقوا باستشهادهم إلى الدرجات العلى، تجاوزوا المفاهيم المادية الفانية لهذه الدنيا وتعلَّقوا بأهداب الآخرة، تركوا أهلهم وذويهم، تركوا كّل ما يملكون: ورحلوا باحثين عن الحقيقة الكلية، راحلين من عالم العمل إلى حيث الحساب ولا عمل.
الشهداء هم الأوفياء والانقياء، هم من اختار الفداء عندما كان النداء الأمم تقاس بعظمة الشهداء، وبنزيف الدماء عند المواجهة وإستحقاق العطاء. الشهداء في أمتنا هم عنوان حضارتنا، لأنَّ مرحلة الاستشهاد هي أرقى مراحل الوعي والتفاني والايمان ونكران الذات.
عندما تأتي لحظة الاستشهاد، وتُسْلم الروحُ نفسَها لبارئها تحدثُ عمليةُ الطُّهر والاغتسال من أدران الدنيا وخطاياها، وتتخلَّصُ الذاتُ البشرية مما علق بها من آثاَم لأنَّ الشهيدَ حبيبُ الله، ومحبةُ الله لنا تستوجبُ أن تتولى الملائكةُ تطهيرَنا كي نكون أهلاً لمحبة الله لنا، ويرضى عنَّا، وكي ينظرَ إلينا بعين الرحمة، ويُفسحَ لنا في جنان الخلد تحت ظلال شجرة طوبى.
لا أحدَ يتجاهُل أَلمَ الفراق، ومرارةَ الانفصال، وحرقَة الموت، ولحظاتِ الوداع، لكننا جميعاً نغبطُ الشهيدَ الذي سما إلى الدرجات العلى مطمئناً في جوار النبيين والصِّديقين والأولياء الصالحين.
الشهيد قدَّم ما عليه تجاهنا قبل الرحيل، وترك اثراً طيباً نتزيَّا به ونعتز، خلَّف سيرةً مُثلى تخطُّ الطريق أمام الخَلَفِ، وترك باقةً من المبادئ والقيم كي تكوّنَ التراثَ الذي لا يبهتُ بريقُه، ولا ينضبُ إشعاعُه.
هذا ما تركوا لنا بعد الرحيل، فما بالنا نحن والامانةُ بين أيدينا، والجرحُ النازف ألماً يُدمينا:
أليس من حّقِ الشهيدِ علينا أن نتمثّل بسيرتهِ؟
أليس من حقِه علينا أن نكملَ مسيرتَه؟ وأن نخفظَ غَيْبتَه؟ وأن نجسِّد قناعاتهِ في حاضرِنا كي يكونَ حاضراً في مستقبلنا؟
أليس من حقه علينا أن نحفظَ هالتَه البهية، وأن نباركَ سكينتَه بعد عودةِ الروح إلى بارئها راضية مرضية.
الشهداء بعد رحيلهم لم يعودوا مُلْكاً لذويهم وإنما هم رصيدٌ لأمتهم ومن هنا تنبع عظمتهم.

بقلم الاستاذ/ رفعت شناعة