من يستطيع أن يكتب شعراً أو نثراً جميلاً في ستالين؟ ومن أين يأتي الشعر؟ إن الوجه النحاسي والشفاه الرصاصية والعيون النحاسية لا تمنح شعراً لشاعر حتى لو كان فحلاً.. كل ما في ستالين هو الستار الحديدي الذي اختفت خلفه رؤوس الرفاق المتطايرة والشعوب التي فرقها شذر مذر.. ومن ستالين الى خروتشيف، معه تتناسى للحظة إشكاليتك الايديولوجية أو السياسية وتجذبك براءة في وجهه لطالما تمنى كثير من الرفاق أن تكون في قلبه كذلك. ولكنها السلطة، فكيف إذا ما كانت شديدة المركزية محمية بشمولية تجعل الباطل حقاً والحق باطلاً.. ولكنك لا تملك مع خروتشيف الذي قد تحبه قليلاً لأسباب تعود الى وقوفه أحياناً في صف قومك. ولا تحبه لأكثر من سبب وجيه وغير وجيه، لا تملك معه إلا أن تنجذب اليه مرة بل مرات.. وتبلغ غاية الانجذاب والدهشة والإعجاب وأنت تراه يصفق في الأمم المتحدة بفردتي حذائه لقرار ضد بلده.. وتعرف أنه كان مغرماً على شيخوخته، بقيادة السيارات بسرعة فائقة ما كان يسبب حرجاً لمضيفيه في أوروبا والولايات المتحدة.
فإذا انتقلت الى بريجنيف وتشيرنينكو ثم أندروبوف ضاعت عليك كل احتمالات الاستلطاف والاستظراف لغياب اللطف والظرف.. هؤلاء رجال من حديد.. هذا الحديد الروسي، لان قليلاً مع غورباتشيف عندما كشف نزعته النقدية وحساسيته الأدبية في كتاب (البرويسترويكا) حتى إذا ما انتهينا الى بوتين وجدنا فيه حديداً ليبرالياً أو جليداً سوفياتياً محلى بشيء من الليبرالية العابسة تحت التأثير التاريخي لدوره كضابط في الـ (K.G.B) وفي أكثر الدول حساسية سوفياتية ألمانيا الشرقية بما ترمز إليه من جدار برلين حائط العبوس والكآبة الحضارية في القرن العشرين الذي يستكمل دوره في الجدار العازل في الضفة الآن. والذي –الحائط- عندما مال ليسقط بعث بوتين الى قيادته في موسكو طالباً أن يحتلّ الجيش الروسي ألمانيا كما فعل في ربيع براغ، لمنع الوحدة والحرية.
هل الجد وحده هو الذي يؤدي الى نضوب الشعر في وجوه الحكام؟
وهل كان وجه شارل ديغول أقل جدية وصرامة من وجه ستالين؟
أبداً ولكن الشعر في وجه ديغول كان كثيفاً وإن لم يكن كثيراً، والشعر اقتصاد وتكثيف لا يقاس بالكم أو الطول أو العرض، بل يقاس بالعمق، وكانت عينا ديغول عميقتين كبئرين سحيقتين أي بعيدتي الغور.
ولا يكون الشعراء الإيرانيون قد كتبوا في خاتمي شعراً، ولكن كل الحديث عنه، حتى من خصومه، ينضح بالشعر، لأن وجه خاتمي السمح حاشد بالشعر، وابتسامته الدائمة قصيدة دائمة، وسلوكه مع أصدقائه وخصومه أقرب الى الشعر. وهو في نجاحه وفشله يتحرك من قصيدة الى قصيدة.. تنتهي رئاسته وتبقى القصيدة.
أما جمال عبد الناصر فالشهادات فيه كثيرة.. مصريته بما هي نكتة وسرعة خاطر وحضور ذهن وذاكرة خارقة ومعرفة بأحوال الرجال، وسمرة وجهه الذي يتحول الى الأبيض النقي بالابتسامة العريضة، ويعود الرئيس الى الصعيد عفوياً ذكياً الى حد تحويل المراسم الى مفارقات لا تخلو من الكوميديا البريئة.
زاره يوماً الرئيس تيتو، وكان قبلها قد عطل المراسم في لقاءاته بالرؤساء الذين يزورون مصر، ولكن مسؤولين يوغسلاف نبهوه الى عناية تيتو بالمراسم والبروتوكول الى حد يفوق ما هو معروف عن الفرنسيين، فقرر جمال عبد الناصر أن يمتثل.. وطلب مدير المراسم الذي كان بلا شغل.. ومن جملة ما رسمه له المدير انه في استقباله للضيف في صالة القصر الجمهوري يجب عليه أن ينتظره تحت ثريا ضخمة تتوسط سقف الصالة الواسعة، وعندما يصل ويصافحه يجب على مدير المراسم أن يتراجع الى مكان في أقصى الصالة قهقرى. والتقى الرئيسان، وبدل أن يحدّث ناصر ضيفه تسمرت عيناه على مدير المراسم وهو يتراجع الى أن تعثر الرجل وكاد أن يسقط أرضاً بسبب تركيز الرئيس نظره عليه.. وبعدها قال الرئيس لزملائه: أنا لا أطيق هذا.. لقد كنت طوال الوقت مشغولاً باحتمال سقوط الثريا على رأسينا.
وروى أدونيس انه كان مسكوناً بمواقفه وهواجسه كعضو في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان على النقيض من السياسة الناصرية، ولكن عبد الناصر عرف بوجوده في القاهرة وأصر على لقائه رغم أن أدونيس أبلغ المتصلين به من قبل الرئيس انه مسافر غداً ولا يستطيع أن يؤجل السفر، فحدد له الرئيس موعداً قبيل سفره في اليوم التالي.. ويروي أدونيس أنها كانت جلسة جميلة نظيفة من الذكريات السوداء، وأن عبد الناصر، كان حريصاً على أن يعرّف أدونيس انه يتابعه ويعرفه ويحبه.
وفي الذاكرة ان عليا بن ابي طالب الذي ما فارق الجدّ في حق او باطل.. وكان صارماً في الحقوق حتى قال: "ومن ضاق عنه الحق كان الجور عليه أضيق".
وفي الذاكرة أن كباراً من الصحابة أخذوا عليه انه ذو دعابة.. وزاد هو عليها في كلامه عنها متعجباً في نهج البلاغة: وأني امرؤ تلعابة.. ومن اين يأتي هذا النهر الدائم من الشعر الذي يطرز به الفحول ذيل ثوب ابي تراب (علي).. ذيل ثوبه البالي الذي لم يعدَّ له طمرا، كما قال!! " ما أعددت لبالي ثوبي طمراً".
أولا نذكر يلتسين الفاسد المفسد؟ الظريف الذي ملأ الدنيا ظرافة وطرافة من دون شعور بالحرج ومع ضحكة عريضة مجلجلة تنسيك الفعلة وتشدك الى الفاعل، ومن لم يسترع انتباهه انقلاب كلينتون على ظهره ضحكا ودهشة من فعلة فعلها يلتسين في زيارة رسمية لواشنطن ومن على منبر المؤتمر الصحافي المشترك!!! اول ما عرفناه من طرائف يلتسين هو انه تعمد ان يدفع بخصمه محافظ موسكو في عهد غورباتشيف الى مكان في النهر مكتظ بالقاذورات.. تحية ليلتسين الذي لم يكتب فيه احد شعرا لان الشعر كان قد نضب في روسيا.. حتى سكت ايفتوشنكو ولم يزل ساكتا بعدما ملأ الدنيا شعرا اعتراضيا في عهدي خروتشيف وبريجنيف. اسمحوا لنا أن ننسى فساد يلتسين مقابل ظرفه ولو للحظة لأننا ضقنا ذرعاً بالفاسدين المستبدين المتجهمين القتلة !
في الختام.. ومات ابو عمار "مات لكي ينهي عهد الموت" ". اشهد اني ما التقيت الا بعدد ضئيل من ثقال الظل والدم غلاظ القلب والذهن من ذوي الوجوه الحجرية والعيون المعدنية والالسنة التي هي اقرب الى المبرد منها الى المقول، ممن خاصموه طولا وعرضا وعمقا ولم يجدوا فيه، او لم يذكروا له فضيلة، حتى ان احدهم وهو على حافة قبره يجري وراء المال جري صبيان الغجر.. صرخ بملء جسده الضخم المترهل ومن دون مناسبة وفي ندوة لا علاقة لها بياسر عرفات.. شاتما الرجل بأقبح النعوت.. فقلت: ولكن الشعب الفلسطيني انتخبه بنسبة 83% وبملء ارادته كما شهد الجميع.. فصرخ الرجل مصرا على عنته: بلى ان العلة في شعبنا.. فقلت له: ما رأيك ان نغير هذا الشعب بشعب آخر لا يحب ياسر عرفات؟ وضحك الجميع وشارك الرجل في الضحك على نفسه. وقال : لن نجد هذا الشعب !

ومرة جمعت مناسبة بين احدهم وبين قائد حركة انشقت عن حركة فتح قبل عشر سنوات من تاريخ اللقاء، وبعد حديث طويل سأل الرجل قائد الانشقاق، وهو رجل فيه بداوة على عفوية وحالات فجاجة مخلوطة بالسذاجة.. سأله الرجل: حسنا واين اصبحتم؟ قال: اكتشفنا اننا في كل فصائل المعارضة نحتاج الى مئة سنة حتى نستطيع ان نحقق 10% من رمزية ياسر عرفات للشعب الفلسطيني.
اذن... فالاكثرية الساحقة من خصوم عرفات، من داخل فتح ومن خارجها، كانوا وما زالوا في حيرة من امرهم معه، يصعّدون في الكلام عليه الى الذروة، وفي نهاية الكلام يشرعون في البحث عن مخرج مما قالوه. يأخذون بتعداد فضائله وألطافه ومفارقاته الجميلة والمحيرة، ويروون روايات عن لحظات الوئام ولحظات الخصام تشدهم اليه وتجعله في واقعهم كالمرض، يصرحون بأنهم مرضى به. ولا يخفي بعضهم رغبته التي تواتيه كما يواتي الوحام الحبلى، بأنه في لحظة، قد اشتاق الى ابي عمار... الى المرض بالعافية أو الشفاء بالمرض.

ابو عمار إن لم يكن الأجمل.. ولكن من يستطيع ان لا يتحدث عن جمال صلعته وكوفيته وقبعته ولحيته الفوضوية وعينيه المدورتين كعيني صقر واللتين عندما يدركهما النعاس او الحب او الشوق الى القدس او الحزن على شهيد او رفيق او أخ أو أخت، أو عندما يستفزهما طفل من اطفال الشهداء او الاسرى، سرعان ما تتحولان الى عيني حمامة من حمامات الاقصى او المهد، وتسيلان دمعا صافيا كزيت الزيتون في كروم جنين حارقا كاويا كشمس اريحا او فلفل غزة، ويعدي من حوله بالحب والبكاء.. ويذكرك في نهاية المشهد انه حسيني مسكون بالحزن والدمع.. وفلسطين امتداد لكربلاء.. ويهمهم.. الجلجلة.. الجلجلة اننا في جلجلة... ولكننا سوف نصلب السنهدرين وقيافا ويهوذا الأسخريوطي، وهللويا يسوع الملك.. ابن الانسان.
هذا ولم نأت بعد الى شفتيه، المكتنزتين البارزتين أصلاً، واللتين زادتهما مهنة التقبيل بروزاً واكتنازاً حتى الورم. شفتان متورمتان متضخمتان بالحب.. لقد أوصى لينين بالتكرار في الخطاب السياسي، لأنه يرسخ النص في الذاكرة والوعي. وأبو عمار كانت شفتاه أداتين ووسيلتين لهذا التكرار، بالصمت، بالقبل مرة، وبالكلام المعاد مرات ومرات... شهيداً شهيداً شهيداً. يا جبل ما يهزك ريح، شعب الجبارين، إلخ.. في البداية كانت تثير نميمة أهل السعي بالمثالب وأهل الأدب الرفيع معاً... الى أن أصبحت محفوظات عن ظهر قلب وفي قلب القلب.. صارت علامات... أما القبل فإنها تكاثرت حتى أثارت غيرة من لا يتقنونها وكانوا يهربون منها ويتعجبون من الإكثار منها، الى أن أدركوا أنهم لا يحسنون مثلها وأنها تحتاج الى قلب كبير يمدها بالرواء والحياة.. وأصبحت قبلات أبي عمار (ماركة) مسجلة له وبامتياز حصري وزاد الإقبال عليها وحسد الأهل أطفالهم على نصيبهم الأوفر منها.. كان الطفل في أبي عمار يقبّل الطفل من قمة رأسه الى أخمص قدميه... كان رسول الله "ص" يقول: "من كان له صبي فليتصابت له". وكان يمازح الأطفال ويكنيهم، ويحافظون على الكنية تلك بعد زواجهم وإنجابهم.. ومرة ارتحله سبطه الحسن وهو يصلي فأطال السجود وبعد الفراغ سأله المصلون: لماذا أطال السجود؟ فقال: إن ولدي هذا قد ارتحلني وما أحببت أن أزعجه حتى ترجل فقمت من سجودي (أو ما في معناه). وكان المسيح يغسل أقدام الأطفال.. غسلها في القدس.. وما أجمله تقليداً مسيحياً ينبع من قلب المسيح.. الذي غسلها وقبلها.. قبلة مني، منا، منها، القدس.. الآن لشفتي أبي عمار اللتين أحسنتا التقبيل... وأحسنتا الارتجاف المعبر في لحظات الغضب الفلسطيني الباهر والباذخ والجميل.. قبلة لمواقع البهاق في وجه أبي عمار ويديه لأنه كان بمثابة الوسام الذي لا يُنزع ولا يُنتزع لأنه استحقاق أبي عمار.. الأبيض.. الأبيض... تحية للعاشق العذري لفلسطين.. قيسها الذي كان جنونه بها أعلى من العقل عقلاً وعقالاً.
"سمني قيساً وسمِّ الأرض ليلى
باسم يافا" - أدونيس
روت سميرة صايغ لبعض أصدقائها أنها وصلت الى مكتب أبي عمار وعنده (فالدهايم) ومعها طفلها صديق أبي عمار فدخلا عليه أثناء لقائه مع الضيف فوضع الطفل على ركبتيه وحرص على أن يحاوره قليلاً أثناء حواره مع ضيفه الى أن غادر الضيف المكتب وصرخ الطفل في وجه صديقه الطفل القائد أو القائد الطفل "أبو عمار يالله نتجاحش" فركع أبو عمار على الأرض رأساً لرأس مع رفيقه وشرعا في المناطحة.. وولولت الأم قائلة لطفلها: ولك هذا في البيت مش هون.. ولكن الطفلين كانا مستغرقين في تناطحهما لا يسمعان إلا صوت ارتطام الرأس بالرأس والقلب بالقلب، والضحكة بالضحكة...
من هنا.. من هنا يأتي الشعر، الشعر الفلسطيني الذي يشبه ازهار وبرتقال البيارة، الى الآلاف التي أصرت على اختطاف النعش للسير به الى القدس حيث إكسير الشعر وقدس أقداسه.