في تاريخه الطويل خاض حروبا ، وصراعات ، وتجاوز مصائب وازمات وصنع صيغا مشفرة ومعادلات وكتب صفحات وطوى أخرى. لقد كان مقاتلا مجاهدا فدائيا من الفئة النادرة . كل قضية وكل موضوع وكل مسألة وكل مشكلة بالنسبة له مهمة مهما بدت للآخرين بسيطة وهينة ، وكل شأن لديه هو متعلق بالقضية الفلسطينية التي جعلها هدف حياته وحافزها الأكبر ومبعث الفعل فيها.

كان يتعامل مع المواضيع والمشاكل بجدية، ويعطى كل منها مساحتها المطلوبة فلم يهمل ولم يسدل الستار على أي موضوع الا بعد ان يتمه ويكمله، أو يحقق غرضه لذلك استثمر الكفاءات والقدرات من حوله بارهم وماجنهم .

الحوار والتفاوض في حياة القائد ياسرعرفات ارتبط بالصراع فلقد عاش طوال حياته في مواجهات وصراعات متواصلة ، وسار في درب الآلام والأشواك أو كما كان يقول لنا: انا لا أسير في خط مستقيم لأنني أسير في حقل ألغام .

 ارتبط الصراع عند الجبل المكلل بالشمس ياسر عرفات بالتحدي كما ارتبط بالمعارك العسكرية والسياسية والاعلامية، وفي كثير من الحالات كان التفاوض هو المدخل الى الحل والخروج من الازمات.

  هل نعدد صراعاته وصراعات الثورة فيه وفينا مع الجغرافيا والمواقع أم مع الأفكار والدوافع أم مع الشخوص والنوازع ؟ لقد كان لياسر عرفات في الجغرافيا تحديات وصياغة ارادها لخدمة مشروعه ومشروع الثورة ومشروع فتح ومشروع الجماهير التحرري، فكلما استطاع أن يوسع الرقعة ويزيد المساحة كان يستل سيف الحرب ويتقدم بلا وجل، وجل لم يعرفه في حياته منذ يفاعة الطالب المقاتل مع عبد القادر الحسيني، ومنذ فجّر العدو غرفته التي غادرها قبل دقائق في فندق الوحدة في رام الله عام 1967 ، وكلما ضاقت عليه الجغرافيا أو ضيّقوها كان يتألم ويرفض وأحيانا يفاوض فيصالح ولكنه في غالب الأحيان كان يطلّق جغرافيا الأفكار المناوئه وجغرافيا نوازع الشخوص وجغرافيا الأرض الضيقة وجغرافيا الاحتواء، وينتقل او يخرج أو يبتعد.

في الأردن ضاقت عليه الجغرافيا وتصارع مع الأفكار والشخوص فخرج مدثرا بعباءة الكويتيين من اغتيال محقق فتفاوض مع مخالفيه في القاهرة عام 1971 وكان ينشد الخلاص لشعبه فتوجع جمال عبد الناصر من حدة السكين التي استلت لتقطع رقاب الفدائيين ، فظهرت مبادرات سياسية امريكية كان القبول بها آنذاك فلسطينيا نظير الخيانة فرفضها عرفات الثائر وقبلها عبد الناصر الرئيس الماكر، فخرج الليث من عمان.

في علاقاته مع القوى الوطنية اللبنانية التي كان يرأسها القائد العروبي البارز كمال جنبلاط كان محاورا بارعا كما كان مناورا واضحا ومكشوفا في كثير من الأحيان . وكان ابو عمار صاحب استراتيجية (كل البنادق باتجاه العدو) و(اللقاء فوق أرض المعركة) فلم يأل جهدا والقيادة الفتحوية في استقطاب كافة البنادق ليكون استهدافها في اتجاه واحد، ولذلك فلقد تفاوض وتنازل كثيرا جدا لاخوته واصدقائه متحملا الاتهامات بالرجعية واليمينية الى الحد الذي وصم من بعض معارضيه ( بالمنبوذ) بعد زيارته للقاهرة حين فك أسرها من الحزام العربي الذي حرمها دورها الريادي اثر خروجه من طرابلس عام 1983.

لاخوته واصدقائه حتى من أجل عيون مخالفيه تنازل كثيرا، ليكسبهم وتحاور طويلا ليكسبهم وتفاوض طويلا ليرضيهم واضعا نصب عينيه المصلحة الوطنية غير مبتعد عن وهج النور الذي ما فتأ يتحدث عنه ويراه ( في آخر النفق ) وهو نور فلسطين ونور القدس التي أغمض عينيه عن  تخيلها في 11/11/2004 وهو في البعيد هناك في باريس، ولكنه لم يفرط بها أبدا.  إنه الطير المسكون بفلسطين والقدس كما قال عنه وزير الخارجية الاسرائيلية الأسبق(شلومو بن عامي) وهو الذي رسم الطريق على اثر صلاح الدين الأيوبي فكيف له أن يفاوض في كامب ديفد عام 2000 ويمحي من قائمه اهدافه ما عاش لاجله  ......... القدس ؟

في إطار منظمة التحرير الفلسطينية التي دخلها وهو يلبس الكاكي والكوفيه والمسدس عام 1969 خطب فيهم خطابا ملتهبا لم يقل لهيبا عن خطابه العالمي النكهة في الامم المتحدة عام 1974 ولا عن خطاباته المتصلة في كل وسيلة  اعلامية أو في اطار اجتماعات المجالس الوطنية التي كان يديرها بهدوء وحنكة بالشد واللين وبآليات حوار وتفاوض كان فيها يسعى لكسب الجميع في اطار الوحدة الوطنية ولكن دون أن يتخلى عن هدفه السياسي ورؤيته المرحلية والاستراتيجية ، فلكل مرحلة عنده رجالها وأفكارها و(عدتها).

لك أن تراه يتحدث شامخا وضاء الجبين أشمّا في المجلس الوطني الفلسطيني الـ 18 في الجزائر عام 1987 حيث انتهى حوار ومفاوضات (عدن- الجزائر) بين حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح وتنظيمات المعارضة الفلسطينية (التحالف الديمقراطي الذي ضم تنظيمات الجبهة الشعبية والديمقراطية والشيوعي والفلسطينية) للتو، وكانت جلسة المجلس تتويجا لهذه الحوارات والمفاوضات المضنية التي اختتمت بتشابك الأيدي مع حكيم الثورة جورج حبش ومع خطيبها المفوه نايف حواتمة، ومع عقلها الوثاب صلاح خلف (أبو اياد) ولصلاح خلف في هذه الدورة صولة عظيمة استطاع فيها أن يرسم القمر والسحاب ويضع الثريا بين يدي المشاركين بقوة صوته ووجاهة طرحة وعنفوان منطقه وبلغة جسده الوثير، لغته التي كانت تفيض على الآخرين كما يفيض الريحان ، وبقدر ما كانت تتقاطع وتستوى مع فيوض الزعيم ياسر عرفات الذي كان يدفع بزملائه للمقدمة كتفا بكتف ولكن في اطار خريطة عقله وسعيه الدؤوب لتحقيق الانتصارات، فالفجر دوما عنده يبزغ من جديد.

في مفاوضات الخليل قدم له الاسرائيليون ملفا يحتوي على وثائق تثبت ملكيتهم لأراض وبيوت في الخليل كما قالوا، فاننتفض واقفا ليقول لهم سآتيكم بشاحنات وثائق تثبت ملكيتنا في حيفا ويافا والقدس فأسقط في أيديهم وأغلقوا الملف.

ياسر عرفات ثورة بساط الريح، رجل المراحل والمنابع والتحايا والسدود والفيضانات والتاريخ ، رجل الفعل الذي يسبق ، والانجاز الذي يحيط بك ، والعمل الموصول الذي يشدك اليه . ياسر عرفات ورشة العمل التي لا تهدأ أبدا فهو المتحرك عندما يتدثر الآخرون برداء الليل وهو القابض على الجمر عندما يتوجع من حوله.

 هو المؤمن التقي الورع الذي تفيض عيناه بالدموع في مناجاته لربه في كل صلاة، وحين يرى طفلا او عجوزا يشكو، او يواجه بجبل الأوراق الذي ينتظر قلمه الأحمر.

ياسر عرفات لمن لم يعرفه كتيبة متنقلة وامة اجتمعت في إهاب رجل، مربوع قصير القامة غير حليق اللحية ذو نظرات ثاقبة ورأس صغير الحجم أصلع بعقل ثاقب، ونفور من الركود والسكون والآهات. في مسيرة حياته الطويلة صنع المواقف والرجال وحقق البطولات و الانجازات، ورسم أسطورة النضال والصمود في بيروت 1982 وفي طرابلس 1983 وفي كل عمليه متقنة دكت حصون الاعداء ثم في صموده الأبدي في عش النسر في المقاطعة برام الله حتى استشهد فيها عام 2004 .

تصارع وتحاور وتفاوض في الأردن ومع الفرقاء اللبنانيين كما تفاوض مع الرئيس حافظ الأسد ومع الملك حسين والرئيس الليبي ورؤساء آخرين ، ومع قادة الفصائل الفلسطينية طرا ، كما تحاور وتفاوض مع زملائه في قيادة فتح ، فكان الحوار والتفاوض وخوض الصراعات لديه قوت يومي . 

 ولما سدت السبل في وجهه وقاطعه القريب قبل البعيد التقط الفرصة وفاوض عدوه في مدريد عام 1991 ثم في أوسلو حتى العام 1993 وماتلاها من مفاوضات.

 كان لياسر عرفات في كل عاصمة وكل درب وفي كل ملتقى وكل زاوية بصمة لا تخطئها العين، كما كان له في كل شهيق وارتفاع وفخار، وكان له في المفاوضات مع الطرف الآخر دروسا غطت على سعيهم لركله خارج السياق، وعن أبي عمار والمفاوضات كتب الكثيرون عن اللحظة والفرصة والعبوس والايماءة والموقف والتجلي ، سطرت الروايات بقلم الأجانب والعرب وبأقلام أعدائه ومحبيه، وفي مرجعية الأخ أحمد قريع (أبو علاء) الذي تحدث عن هذه المرحلة في كتبه الثلاثة الهامة نجد الشئ الوفير الذي أنصف ياسر عرفات والمفاوض الفلسطينين وقرر أن الفارس البطل ياسر عرفات ظل في كافة الأماكن والمراحل وفي (كامب ديفد) ظل متمطيا صهوة جواده استعدادا للحرب .

 في كامب ديفد حاول الرئيس الامريكي الأسبق ( بيل كلنتون ) أن يستل منه اعترافا بما يسمى (الهيكل) تحت المسجد الاقصى فقال عرفات: انه في نابلس مشيرا لما يقوله اليهودالسامريون عنه، ولما ضغط عليه الرئيس الامريكي قال في اليمن ثم قال في السعودية وهي كلها ذات اشارات ودلائل تاريخية ارتبطت بأبحاث علماء آثار ومؤرخين أثبتوا ذلك، فلم يكن لأي حجر تحت القدس لينطق ويقول انني انتمي للعهد العبري ما صرح به علماء الآثار الاسرائيليون أنفسهم.

 لقد كان في اعتناقه للقدس مشمولا بالنفحة الايمانية والتجلي الروحاني وثقة الجماهير الذي منحه الصمود والقوة والعنفوان امام صرخات ( بيل كلنتون ) الذي قال له انا مسيحي ومؤمن ان هيكل سليمان في القدس وتحت الأقصى مالم يهتز معه عرفات وما خالفه رافضا التنازل كما رفض المليارات التي وعده بها (كلنتون) فعاد أبو عمار ليشعل انتفاضة الاقصى ( 2000-2004 ) ليدفع حياته ثمنا لها.

      رجل الحوار الوطني في ظل الأزمات والصراعات، حاور الجميع وفاوضهم حتى اولئك الذين اتهموا مخالفيهم بالكفر والزندقة والالحاد في محاولة للبس ثوب الأنبياء وتوزيع شهادات الكفر او الغفران على الآخرين ، فلم يمل ولم يكل عندما كانوا يوجعونه كلما فتح ثغرة باقفالها حتى اسقطوا مؤخرا كل اسلحتهم في وعي متأخر لمتطلبات الحكم والسلطة والسياسية فقسموا البلاد والعباد .

ياسر عرفات في كامب ديفد عام 2000 كان يرسم القدس باصبعيه ويحفر قبره بيديه فكما آمن بالحوار وخاض الصراعات، فانه كان يعرف ويقدّر ويحسب ويرى ولا يترك وراءة الجوعى او المكلومين ، لم يمل من غبار المعارك ولا ضجيج السلاح وترك جواده عند عتبة المرور الى القدس التي فداها بروحه .

رجل الحوارت الطويلة والنفس العميق ، رجل الوحدة الوطنية والفعل العريق.... كان خطا واضحا وسعيا طويلا ، كما كان حقيقة شفافة لاخوانه ، وحائطا صلبا أمام مخططات أعدائه ، اعتنق البندقية وسعى للحرية والعدالة والسلام فطعنوه بالرفض وقتلوه بالتعصب والعنصرية والعدوان... فغفا