نكره الخيمة ونختلف على من يشيّدها، نخاف الخيمة حين نرسم حدودها بالحبر الاحمر، فتتهاوى على الجسد، وتسقط على الارض معلنة نهاية المشروع، نخاف من الخيمة لاننا دخلناها دخول اهل الكهف في المغارة، فلم نضرب خيامنا على حدود الكلأ والمرعى، ولم نشيّدها استعداداً للرحيل، بل صارت ثابتاً من ثوابتنا الوطنية، وحينما خرج ناجي العلي من رحم الخيمة وبدأ مسيرته الضبابية كانت فلسطين هي الهادي والمرشد له.

الغزال أكله الذئب:

 بعيداً عن الاتهام، فإن الرصاصة التي ثقبت وجه ناجي العلي واستقرّت تحت عينه اليسرى، تندرج في اطار الاغتيال السياسي، من قبل شخص مجهول في لندن يوم 22 تموز 1987، امام مكتب "القبس" وكانت كفيلة بالضربة القاضية، وابقائه في غيبوبة مميتة لم يفق منها ابدا حتى يوم اعلان وفاته 29/8/1987، وفي ذكرى استشهاده لا بدّ من وقفة نستقرىء فيها حياة هذا الفلسطيني القصيرة التي تميّزت بروح الخلق والابداع سواء على جدار مخيم او حائط سجن او ورق جريدة، حيث ضمت في ثناياها قصة نضال ومعاناة لحكاية فلسطينية، نطق بها قلمٌ، وحبرٌ، وورقة، حتى صارت رمزاً لأول رسام كاريكاتير يتم تصفيته واغتياله كرد فعل على رسومات كان يقدمها كشاهد على الحالة السياسية والوطنية، وما آلت اليه الاوضاع في تلك الفترة، اي منذ ما يقارب الثلاثة عقود، والتي لا تزال الى الآن اصدق تعبير عن حالة الوطن العربي والقضية الفلسطينية! وليس سهلاً على الانسان ان يحمل في تلافيف نفسه صفة النزوح، واللجوء، وفي ذات الوقت ان يكون مُحَارباً ومُطَارداً، وعندما كانت فكرة ناجي العلي تتجسد على الورق، كانت تتجسد ككقطعة ذات مضمون حقيقي مؤدلج في السياسة والمفاهيم الشعبية التي تتوق  الى التحرر والعودة، وتُظهــِر مدى الظلم الفادح الواقع بحق القضية الفلسطينية، ناجي العلي صاحب فكرة ورسالة كان دائما  يظهر بمظهر المتوجس، وكأن احداً ما كان يلاحق هذا الرسام المبدع ويقول له: عليك ان تخاف، لا تسأل لماذا ومن ماذا؟ الخوف يحميك ويجعلك في مأمن، عليك ان لا تحرّك المياه الرّاكدة او تؤجج نار المشاعر والأحاسيس في صدور ابناء النكبة، التزم الصمت،  فالعدو خلف الباب انتبه! أما أسنّة الرماح فهي في يد عشيرة هنا وقبيلة هناك، وباب السجن مفتوح باستمرار للضيف الغريب، انتبه! ناجي العلي كان يوضّب اقلامه دائماً ويعد العدّة ليدخل سجناً هنا وثكنة عسكرية هناك إثر كل رسمة موجعة. لم يخضع لمنطق الاخافة، ظل متمرداً رافضاً لمنطق التدجين والتهويل والمساومة، كيف لرجل مثله تمرّس منذ كان صبياً على رسم معاناته واحزان القضية على جدران المخيم وحيطان السجون، كيف لرجل مثله ان يهادن على قضية شعب ووطن؟ منذ ذلك الوقت، بدأ الوعي بهول الكارثة يترسخ في ذهنه، ويتفتح باتجاه فلسطين، لم يكن يريد ان ينخرط في هذا الصراع الدامي بالشكل الذي دخل فيه، وكان يكفيه ان يكون ميكانيكيا وهي المهنة المتاحة التي اختارها في بداياته، ولكنه ابى ان يخضع وينكسر لمنطق الاستكانة وهو القائل:"بالصدفة اصبحت رسام كاريكاتير، كان لدي توجه في بداية شبابي لان اتعامل مع المسرح، كنت اريد ان اصرخ بالكلمة التي تنقل مشاعري واحساساتي..دفعتني الظروف للعمل في المجال الصحفي واكتشفت ان الكاريكاتير هو الاداة المناسبة للتوصيل" فلم يكن الموضوع بداية ً هواية ثم احتراف، انها الظروف والقدر والمشاعر المتدفقة في صدر كل فلسطيني رأى الظلم الذي لحق بأهله وشعبه ووطنه، اراد ان يصرخ ليفرّج عن نفسه وروحه، فكان الكاريكاتير تلك الصرخة المؤلمة المعبرّة بصورة حضارية عن معاناة انسانية كبيرة وعظيمة، لم يكن من مدرسة  الانطباعيين، ولم يكن رساماً تشكيلياً او تجريدياً، ولا مترفاً في رسوماته. انه على جبهة القتال مع العدو ويجب ان تكون المفاهيم والرسومات واضحة. هكذا كان يفهم الصراع، ليس من منطق التخويف ولا التخوين بل بمنطق الحق والعدل بمنطق الانسان المقهور الذي سُلِب كل شيء: ارضه، وبيته، وحياته، ومستقبله، فلم يبق له الا الصراخ كأبلغ طريقة للفت انتباه العالم الى ما أصاب الشعب الفلسطيني من مآسٍ وويلات. وهكذا هو يقول: " هكذا افهم الصراع:ان نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب" فلا مجال للعبث والمهادنة والوقوف على الحياد، ولا فرصة للاختيار بين ان نكون او لا نكون!

أنا من مخيم عين الحلوة:

 منذ ذلك الوقت في مخيم عين الحلوة وقف الصبي (حنظلة) حائراً امام الكارثة، لم يقو عليها، ولم يكن بامكانه ان يفعل شيئاً سوى ان يطوي تلك الصرخة - الهمّ في صدره لقادم الايام، كما فعل الشعب المهجّر حين ذاك! ولكن هذا الحنظلة ولد ليحيا ويعيش، لا يكبر ولا يصغر، وسيبقى شاهداً على تلك المذبحة التي لم تتوقف حتى الآن! فعقد يديه الى الخلف، وأدار ظهره للحياة، وفتح عينيه على هول مشهد كبير، مشهد بمساحة الكون، وعندما قدّم ناجي العلي "حنظلة" قدمّه كفتى رأى تلك المأساة – الجريمة،  فوقف شعر رأسه المدّبب كالدبابيس وتسمّر مكانه لا يلتفت الى شيء سوى الى تلك الهوة السحيقة التي حفرت عميقاً في الجسد الفلسطيني والقضية الفلسطينية، قدّم شخصية حنظلة بقوله: " ان شخصية حنظلة كانت بمثابة ايقونة روحي انه كالبوصلة بالنسبة لي وهذه البوصلة تشير دائماً الى فلسطين قدّمته للقراء واسميته حنظلة كرمز للمرارة في البداية قدّمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه اصبح له افق قومي ثم افق كوني انساني" رسم ما بدا له من تآكل أخذ يظهر في جسم القضية، رسم حزن الناس وآساهم، رسم المأساة التي حلّت بكلكلها على شعب رمته المؤامرة على حطام الدنيا، فتحول الحطام الى مخيمات وجدران متهاكلة رسم عليها العلي ما كان يراه ويخاف منه، حتى أخاف من أخافوه " اريد ان ارسم للناس البسطاء الذين لا يقرأون ولا يكتبون". فهو يعتبر نفسه ابن مخيم عين الحلوة، ابن هؤلاء الناس الذين يحملون وزر القضية، واحمالها الثقيلة، ويضحون من اجلها، هؤلاء البسطاء الذين يقدمون دماءهم رخيصة في سبيل استرجاع الارض، هو ابن الطبقة الكادحة والفقيرة، وهي صفة ابناء المخيمات جميعها، وهذا ليس عيباً في شعب حلّت به وبأرضه اشدّ واقسى مؤامرة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها؟! لا بدّ لدارس هذا الرجل ان يتناوله كإنسان، ورسام كاريكاتيروابن قضية في آن، فهو كإنسان ابن النكبة، وابن المخيم وما يحمل ذلك من مأساة وتشرد، وهو كرسام صاحب موقف سياسي ورؤية، وكابن قضية حمل تبعاتها وهمومها وكرّس حياته لها " انامن عين الحلوة مثل اي مخيم آخر، ابناء المخيمات هم ابناء ارض فلسطين لم يكونوا تجاراً ولا ملاكاً، كانوا مزارعين فقدوا الارض وفقدوا حياتهم فذهبوا الى المخيمات ابناء المخيمات هم الذين تعرضوا للموت ولكل المهانة ولكل القهر. وهناك عائلات كاملة استشهدت في مخيماتنا". فرسومات ناجي العلي كانت تعبر عن نظرته السياسية والنضالية، وقد افسحت له القضية الفلسطينية بمفهومها العروبي مجالاً واسعاً للتعبيرعنها في رسوماته بصدق ورهافة، ومن جهة اخرى، اسهمت هذه القضية بمفهومها السياسي، والوطني، والقومي،  في ابراز قدراته وطاقاته وموهبته وحرفيته في التعبير عنها،  وعن مواقفه السياسية،  فهو ابن النكبة، وابن المخيم، من الصعب ان نتحدث عن ناجي العلي مجرداً عن هواجسه الوطنية، فرسام الكاريكاتير عادة يرسم شخصياته بشكل مشوّه كأن يمطّ الوجه، او الانف، او الاذنين، او ينفخ البطن ويكبّر المؤخرة، وغير ذلك على سبيل الفكاهة، لكن شخصيات ناجي العلي تعبر عن أناس بسطاء وملامح بسيطة لا تعدو عن كونها  شخصيات محدودة ومحددة تحمل هم القضية ومعاناتها، فلم يمسها بتشويه، ولكم تألم  من التشويه الحاصل في واقعنا وأمتنا، فهو رسام التزم قضية وطنية فريدة عبرّ عنها بالفكرة والكلمة والصورة معاً بايجاز بليغ، وبساطة قريبة الى الناس، تلخّص المشهد السياسي او الحالة الوطنية: " الطريق الى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، انها بمسافة الثورة" ففلسطين فعل نضال وجهاد وكفاح، فالوطن قريب اذا تضافرت الجهود وتوحدت باتجاه واحد، ، وهو بعيد، اذا سادت الفرقة والتناحر وتشتتت الجهود، وانصبّت في غير موقعها: " ان نكون او لا نكون التحدي قائم والمسؤولية تاريخية". كان يخشى ان ينتهي الامر الى ضياع القضية وزوالها وضياع الحلم، فالمسؤوليات جمّة وكبيرة، ولا تهاون فيها لاننا امام عدو يملك كل الطاقات ومقدّرات القوة، وعلينا الانحياز الى القضية، وان يصبح الانسان فينا بحجم الوطن، اي ان يملأ الوطن فكرنا ومشاعرنا وآمالنا، واذا كان لا بد من الانتقاد فمن اجل البناء وليس الهدم، وان لا يكون الانحياز الى حزبية او فئوية، بل الانحياز الى نبض الناس لان الناس – الطبقة الفقيرة هي التي تتحمل الجزء الاكبر من التضحيات ولديها المصلحة الحقيقية  في التحرير واستعادة الارض: متهم بالانحياز، وهي تهمة لا انفيها ، انا منحاز لمن هم "تحت"".

 

الصبي وقوفاً مدى الحياة:

 رسومات العلي فيها انحياز واضح الى الطبقة الكادحة طبقة ابناء  المخيمات التي تعشعش القضية في قلوبهم، رسومات مشحونة بكم كبير من المعاني السياسية بلغة متعددة الاوجه فيها الوطني والسياسي والانساني، بحيث تمس اهم ما في الانسان من تعاطف وتعاضد مع قضايا حرية الرأي والوطن والانسان. في ذات الوقت تعبر عن الواقع المرير الذي نعيشه، وتتضمن الانتقاد اللاذع للاوضاع العربية والعجز العربي الذي من المفترض ان يكون السند والحامي والملاذ الاول والاخير للقضية الفلسطينية، وليس المثبط للامال والهادم للرجاء، أو الصخرة التي تتحطم عليها المجاذيف! ففي رسوماته  دعوة الى التغيير والتمرّد على الواقع، وكم آلمه المشهد العربي المذبوح على مرأى من الجميع، فتألم له لأنه انسان ، وابن قضية، يرى بواطن الامور والخفايا، ولان لديه رؤية سياسية للاحداث، لذلك انتقد الاداء والاوضاع لانه كان ينشد الافضل: " كانت هناك اشياء كثيرة تدعو لليأس... في تلك اللحظة شعرت بتحفز داخلي غريب... وان اعري اولئك الذين لا يكفون عن الضجيج... كل هذا اقل ما استطيع دفاعاً عن كرامة الذين ضحوا في لبنان وفي فلسطين... ان افعل بالمستقبل دفاعاً عن الحق الحلال في الحلم". كان يرى الزمن بوجهين، وجه يتطور مع الاحداث، ووجه توقف به الزمن عند عتبة العاشرة في شخصية حنظلة حتى صار رمزاً في عالم الرسم الكاريكاتيري، قد يعود الفضل الى القضية الام، او الخيمة والتشرد، ولكن مَنْ خلق مَنْ. هل هو خالقٌ لفنه ام فنه خالقه، فالرسمة التي كان يقدمها هي شكل من اشكال التفكير والكلام والسياسة. وقد اصبح للصورة في عصرنا دور كبير وتأثير فاعل بعد هذا التقدم العملي والتكنولوجي، وصارت الصورة تهز دولاً وتقيل حكومات، وتشوّه سمعة، ولكن ناجي العلي..هذا الحنظلة الصغير ابن العشر سنوات ليس  مختلفاً عن كل هذا قال يوماً: " اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين بدو يعرف حالو ميت". وجد غسان كنفاني فيه ما يستحق الاهتمام في بداية مشواره عندما شاهد اول رسمة له، وهي عبارة عن خيمة يعلو قمتها بركان تمتد منه يد تلوح! بهذه الرسمة بدأ رحلته في مجلة الحرية سنة 1967 وبعدها في الكويت كمحرر ورسام  ومخرج صحفي في الطليعة – الكويتية والسياسة ثم السفير اللبنانية، والقبس الدولية.

 

الحمامة صارت غراباً:

فناجي العلي وحنظلة صنوان لا يفترقان, فجاءت كافة رسوماته التي تناهز الاربعين الفاً كلها مذيلّة بحنظلة، واصبح حنظلة رمزاُ للتحدي والتمرّد، وشخصية خالدة لا تموت، تعبر عن واقع فلسطيني وعربي وانساني، وترمز الى كل قضية عادلة وقضية حق في هذا العالم ، شخصية شاهدة على الظلم والقهر، فباب الصراع مفتوح  وفلسطين هي الهدف. والرسومات التي رسمها ناجي العلي كانت وسيلة من الوسائل التي استعملت في خدمة القضية. يقول ناحي:" لقد كنت قاسياً على الحمامة لانها ترمز للسلام والمعروف لدى كل القوى ماذا تعنيه الحمامة التي اراها احيانا ضمن معناها انها غراب البين الحائم فوق رؤوسنا، فالعالم احب السلام وغصن الزيتون، لكن هذا العالم تجاهل حقنا في فلسطين لقد كان ضمير العالم ميتا والسلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا لذا وصلت بي القناعة الى عدم شعوري ببراءة الحمامة" فالاختلاف السياسي ميزة ديمقراطية،  يجب ان لا يؤدي بالمختلفين الى الفراق وعدم التلاقي، الا اذا كان الخصم السياسي عدواً، فهو لا يتورع من ارتكاب الجرائم، والتصفيات، وفي كل الاحوال فإن تصفية القضية، وتشريد الشعب الفلسطيني بدأ بالجملة من قبل العدو الاسرائيلي منذ بداية النكبة، عندما اصبحت المخيمات ملاذاً للاجئين الفلسطينيين، وأحد عناوين المواجهة مع العدو، وكان لا بد لهذا العدو من اللجوء الى التصفية والقتل بالمفرق ايضا، للقضاء على كل بارقة امل تظهر في المخيمات، أو تحمل الهمّ الفلسطيني وتعبّر عنه بطريقة مثلى، أو التي كانت تأخذ دورها لتكون على تماس مع هذا العدو، وتكشف جرائمه التي لا تزال تلاحق الشعب الفلسطيني وابناء المخيمات لتقضي على آماله وطموحاته في التحرير والعودة. وعندما ضاقت الارض العربية بناجي العلي تحت ضغط الملاحقة والطرد، سافر الى لندن، وهناك كان الموت له بالمرصاد. لذا فإن مقتله أدى الى قتل شخص بذاته، وكف يده عن فضح جرائم العدو، وقتل ذاكرة وظاهرة نادرة من عدو يأتي خلسة من الخلف لتنفيذ جريمة اغتيال بشعة ، ولكنه في نفس الوقت احيا رسوماته التي سوف تبقى خالدة ابدا، واعطاها ابعادا وطنية سامية، كما ودلّت على بشاعة الجريمة والحقد الدفين في قلب هذا العدو