لم يكن ما تقدّم من عرض للعلاقة التصادمية الفلسطينية الصهيونية عبثًا، أو تزيدًا وإسرافًا في الإنشاء، إنّما كان يستهدف عرض طبيعة العلاقة الثنائية بين القيادتين والمشروعين الوطني والاستعماري خلال العقود الأخيرة. وللوقوف على جواب السؤال، هل قادة المشروع الصهيوأميركي لديهم الرغبة في تصفية السلطة الوطنية الآن وبِشكل مباشر عبر عملية الاجتياح الكامل للمدن والقرى، وحل المؤسسات والأجهزة الأمنية أم لا؟ وقبل ذلك هل لدى خبراء واستراتيجيي (إسرائيل) الاستعداد لهكذا مغامرة؟ 

تستطيع (إسرائيل) في كل لحظة القيام بالإقدام على أي جريمة ضدَّ الشعب العربي الفلسطيني. لكنها في ذات الوقت مكبلة بالمعايير النسبية أمام الشرعية الأممية والأقطاب الدولية المتمسكة بخيار السلام وحل الدولتين، والتي تفترض أن الحل المقبول فلسطينيًا، هو الحل الأمثل، والذي يحقق لدول العالم التخلص من أزمة المسألة الفلسطينية المزمن، ويؤمن حاجات المشروع الاستعماري الصهيوني، ويفتح الأفق لإعادة هيكلة وبناء الإقليم بما يؤمن مصالح جميع القوى، إلا إذا حدث تطور غير منظور في المستقبل في ظلِّ المعادلات الدولية الجديدة مع النظام الأممي القادم. ولهذا لن تلجأ (إسرائيل) للتصفية المباشرة للسلطة الوطنية، ولن تقوم بالاجتياح، إلا إذا قُدمت لها ذريعة من خلال إقدام إحدى القوى المتطيرة بعمل أحمق، أو محسوب مع أجهزة الأمن الإسرائيلية لتنفيذ جريمتها الوحشية تحت لافتة "الدفاع عن الأمن الإسرائيلي"، ومع ذلك ستحرص على إبقاء الصورة الشكلية للسلطة تمهيدًا لتصفيتها بوسائل أقل ضجيجًا، وتحميلها للذات الفلسطينية نفسها.

مع ذلك (إسرائيل) الخارجة على القانون، والتي فوجئت بإقدام القيادة الفلسطينية على الخيار الأصعب في ال26 عامًا الماضية لن تقبل الإنصات للصوت الوطني، ولن تسمح للسلطة بالتمرد والخروج على "طاعتها"، وعليه ستعمل على تفكيك وتمزيق السلطة الهشة من الداخل، وعبر إستخدام أدواتها وعملائها المنتشرين كالفطر في الجسد الفلسطيني. وهي لم تنتظر حتى تبدأ، بل بدأت منذ اليوم الأول للتوقيع على اتفاقية أوسلو وقيام السلطة عام 1994، وكانت تعد العدة لليوم الفلسطيني الأسوأ من وجهة نظرها. وخلال الشهور والأيام الماضية أطلقت بعض عملائها بشن حملات التحريض والتشويه للقيادة وشخوصها، مع التركيز على شخص الرئيس محمود عباس، ومحاولة الإساءة للأجهزة الأمنية الفلسطينية، كما سيتم اللجوء لعمليات الاعتقال والاغتيال، ونشر الفلتان الأمني وفوضى السلاح لزعزعة الثقة أكثر فأكثر ما بين الشعب والقيادة، بالإضافة للعب على عظمة الإنقلاب لتعميق الإنقسام، وتكريس إمارة غزة للإخوان المسلمين رشوة بخسة لتأبيد عملية التشظي في أوساط الشعب والقضية والمشروع الوطني، مع أن مشروع الإمارة لن يكتب له النجاح، ولن تتمكن حماس ومن لف لفها في إنتزاع الشعب العربي الفلسطيني من ذاته وهويته ومشروعه الوطني ومستقبله. 

كما أن إسرائيل الإستعمارية لجأت وستلجأ لبعض الشخصيات، التي لعبت دورًا مسؤولاً أو وزاريًا سابقًا والمستعدة للعب أدوار مأجورة بإسم "الوطنية"، أو باللجوء لشخصيات تافهة كانت ذات يوم في هذة المؤسسة الأمنية او تلك، حتى للشخصيات المعروفة بعمالتها كالمدعو "محمد مساد"، الذي تلفع بالكوفية ليدعو للإنقلاب على القيادة، كما انها ستعتمد على بعض الكتاب من أصحاب الأجندات، أو أولئك المهووسين ب"الأنا" لتلميعهم إعلاميًا، أو أصحاب وجهات النظر المتطرفة حتى لو لم يكونوا عملاء، ولكنهم بإسم الإختلاف في الرأي سيساهموا في تعميق الهوة داخل المجتمع الفلسطيني، وهناك النماذج المعروفة زمن الإنتفاضة الثانية، اصحاب البنادق المأجورة، ومعهم أدوات المستعمرين المستوطنين، والقوى الدينية، التي شُّكلت تاريخيًا كرديف للمشروع الصهيوني، ونماذج روابط القرى وغيرهم، فضلاً عن شركاء ووكلاء الإسرائيليين الصهاينة ومؤسساتهم في الإقتصاد الوطني، وسماسرة الأرض والعملاء من كل لون وجنس وعاهة المنتشرين في المؤسسات الخاصة والعامة.

هذا الهجوم الحاد والمتدحرج والمتصاعد في المشهد الفلسطيني يحتاج إلى رؤية لكيفية المواجهة، وسأطرح بعض الأفكار، وهي قابلة للتطور والتغيير إرتباطًا بعملية المواجهة المحتدمة، منها: أولاً إعادة الثقة بين القيادة والشعب في أرجاء الوطن وفي الشتات؛ ثانيًا تغيير شامل في بنى وهياكل ومواقع الهيئات القيادية للعديد من المؤسسات المدنية والأمنية حماية لها، ومن زاوية أخرى تجديد في الوجوه؛ ثالثًا تقسيم الوطن إلى أربع قطاعات أساسية: قطاع الشمال ومركزه نابلس، وقطاع الجنوب ومركزه الخليل، وقطاع الوسط ومركزه رام الله، وقطاع جنوب الجنوب (قطاع غزة)، وإعتبار كل قطاع منطقة عسكرية يقودها حاكم عسكري مع هيئة قيادية تشرف على كافة المهام الأمنية والإقتصادية والإجتماعية والقانونية والتربوية والصحية والدينية؛ رابعًا فصل التنظيم عن الهيئة القيادية في هذا القطاع أو ذاك، وهنا أقصد تنظيم وأقاليم حركة فتح عن الهيئة القيادية، وبحيث تتحمل الأقاليم عملية التنسيق مع القوى الوطنية المختلفة من الفها إلى يائها، ويكون ضابط إتصال بين القوى الوطنية والقيادة العسكرية في هذا القطاع أو ذاك؛ خامسًا دعوة كل العملاء والمشبوهين وأدوات إسرائيل المعروفين، ومن يقف خلفهم لإجتماعات في القطاعات المختلفة وإبلاغهم رسالة وطنية واضحة وحاسمة لا تقبل التأويل أو منطق "التأتأة" بالإلتزام بخيار وقرار القيادة الفلسطينية، وتحميلهم مسؤولية الخروج عن الصف الوطني، ونشر بيان واضح حول ذلك للجماهير، حتى في حال تم إتخاذ أيّة إجراءات ضد هذا الشخص أو تلك الجماعة المارقة تكون القيادة في حل من أيّة تداعيات أو تبعات؛ سادسًا التنسيق مع كل القوى السياسية العاملة في الساحة، والإتفاق معها على برنامج وطني واحد وموحد، والطلب إليها بعدم الخروج عن ما يتم الإتفاق عليه، وفي ذات الوقت العمل على تشكيل هيئة وطنية في كل قطاع لتطوير المقاومة الشعبية من خلال تحديد أداة قيادية، وبرنامج عمل، واليات، ووضع الإمكانيات الممكنة لتصعيد المقاومة؛ سابعًا العمل بكل الوسائل لتطبيق إتفاق الوحدة الموقع في اكتوبر 2017، وردهم هوة الإنقلاب، وتجسير العلاقات بين القوى المختلفة، وإيجاد أرضية حقيقية للشراكة السياسية، ووضع برنامج عملياتي في محافظات الجنوب يتناسب وخصوصية قطاع غزة؛ ثامنًا وعلى صعيد محافظات الشمال تبقى السلطة تمارس دورها تحت قيادة العمليات المركزية، وابقاء منتسبي الأجهزة الأمنية المختلفة ممارسة مهامهم بلباسهم الرسمي في المناطق المصنفة ألف، وباللباس المدني في المناطق المصنفة باء وسي، ولا يجوز مغادرة هذة المناطق، بل يجب تعزيز الوجود الوطني فيها، وفي ذات الوقت تحميل دولة الإستعمار الإسرائيلية المسؤولية الكاملة عن تأمين حاجات المواطنين، دون ان يؤثر ذلك على مكانة ودور قيادات القطاعات، بل العكس العمل على تعزيز حضورها على الأرض كقيادة للشعب، والضرب بيد من حديد لكل من تسول له نفسه بتجاوز مكانتها، وملاحقة كل فاسد مهما كان موقعه أو إسمه أو خلفيته؛ تاسعًا تعزيز الوجود في مخيمات الشتات ووضع قيادة واحدة لها، وتأمين إحتياجات وحاجات المخيمات وابناء الشعب في كافة دول العالم من خلال السفارات وقيادات الجاليات دون وجود اي تضارب في المهام، وفي ذات الوقت العمل على تشكيل حكومة منفى غير معلن عنها إلى ان تحين اللحظة المناسبة؛ عاشرًا الشروع بتوسيع نطاق العمل مع القوى الشعبية العربية والمساندة للقضية الفلسطينية؛ حادية عشر مواصلة الجهود على الساحة العربية والأممية لتعزيز مكانة الدولة الفلسطينية، والـتأكيد على القضية والحقوق والثوابت الوطنية، وملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة الجنائية الدولية، والعمل في سياق آخر لإيجاد حلول ابداعية لموضوع جواز السفر الفلسطيني، وتثبيت مكانة دولة فلسطين ... إلخ 

 

 حجم أدوات (إسرائيل) غير بسيط في الساحة الفلسطينية، مع ذلك سأستبق الزمن وأؤكد استنتاجًا علميًّا أثبتته التجارب الوطنية على مدار التاريخ المعاصر مع قدوم أول مستعمر صهيوني للأرض الفلسطينية العربية، أن مصير الهجمة الصهيو أميركية الجديدة الفشل والهزيمة، والنصر بالضرورة سيكون حليف الشعب. ولكن كل ذلك مرهون بدور وأداء القيادة وبمقدار الحكمة والبراعة السياسية التي ستدير بها المعركة الجارية على الأرض، وبمقدار ما يمكنها من تجسيد الوحدة الوطنيةعلى كل المستويات. 

 

من المؤكد هنا نواقص فيما طرحت، وهناك وجهات نظر اخرى وسيناريوهات مختلفة وعديدة، أرجو أن يسهم كل إنسان بوضع ما لديه أمام القيادة لمساعدتها الشد من أزرها لننتصر جميعًا على المشروع الصهيوأميركي المعادي.