كثيرة استطلاعات الرأي، التي لا أتوقف أمام نتائجها، وافترض أنها ممولة ومجيرة لجهات وشخصيات سياسية أو اقتصادية... إلخ. ولكن بعض الاستطلاعات تحتم عليك التوقف أمامها، وإعطاء أهمية للمواقف المتبناة من قبل الجمهور، وتسليط الضوء عليها. منها استطلاع نشرته جامعة بار إيلان الإسرائيلية يوم الثلاثاء الموافق 26/11/2019 شارك فيه 2479 شخصا، نسبة 83% من اليهود، و17% من الفلسطينيين العرب.
من قرأ النتائج خلص إلى نتيجة واضحة تشير إلى ارتفاع حدة ونسبة التجاذب والاستقطاب بين أنصار التكتلين الرئيسيين اليمين والوسط الصهيوني، كما ظهر جليا وعميقا حجم ونسبة التحريض والكراهية العنصرية على الآخر الفلسطيني العربي، حيث أكد المستطلعون وجود "عداء كبير جدا تجاه "الآخر" القومي، وبنسبة أقل تجاه "الآخر" السياسي الصهيوني". طبعا الجامعة استخدمت مفهوم "الآخر الأيديولوجي"، وهذا ليس صحيحا، لأنه لا وجود لافتراقات وتناقضات فكرية أيديولوجية إلا مع اليسار الشيوعي والقومي العربي. فمن نسبة المستطلعين صوت 46% من اليمين واليمين المتطرف، مقابل 78% من أنصار الوسط إلى ان المجتمع منقسم. وتلاقى كليهما بنسب متقاربة على أهمية تكامل المجتمع الصهيوني في مواجهة الآخر، فجاءت نسبة 84% من الوسط، و78% من اليمين تشير إلى إمكانية "أن يكون المجتمع الإسرائيلي متكتلا"، وهو ما أظهر وجود شعور بالعداء للآخر"، على اعتبار أنه يشكل تهديدا على إسرائيل. وهو ما عكسه سؤال وجواب عن مدى استعدادية هذا الطرف أو ذاك للاعتداء على الآخر القومي، فأشار ما نسبته 18.7% من اليهود الصهاينة إلى استعدادهم لممارسة العنف ضد الفلسطينيين العرب، في حين أشار ما نسبته 7% من العرب إلى الاستعداد لممارسة العنف. وهو ما يوضح زيادة وتعمق النزعة العنصرية المشحونة بكم من الكراهية والحقد في أوساط الصهاينة ضد العربي، ورفضهم له، أو للتعاون معه.
ومن جانب آخر يشير الاستطلاع إلى حدة الاستقطاب والتنافر بين أنصار التكتلين الرئيسيين اليمين والوسط، فجاءت نتائج الاستطلاع من أنصار اليمين بنسبة 55% تقول، إن "اليساريين" الإسرائيليين يهددون هوية الدولة الإسرائيلية. ونسبة 59% من اليمين قالت، إن "اليساريين" الصهاينة يهددون أمنها. في مقابل 45% من الوسط وما يسمى ضمنا "يسار"، يرون أن اليمينيين الصهاينة يهددون هوية الدولة، و43% يرون أن اليمين يهدد أمنها. وهنا أيضا نجد ارتفاع نسبة اليمين الصهيوني في رفض الآخر الصهيوني، الذي يختلف معه سياسيا، والذي يصنف في دائرة الوسط. وهذا التجاذب في الاستقطاب يحمل في طياته تداعيات على مستقبل الدولة الصهيونية، وأشار له أكثر من كاتب وباحث صهيوني سابقا، كما أني أنا شخصيا ذهبت للاستنتاج في كتابي "انتفاضة كانون/ إنجازات وآفاق" الصادر عام 1990 عن دار عيبال، بأن الحرب الأهلية في أوساط المجتمع الإسرائيلي قادمة، إن لم يكن اليوم فغدا، لأن مركبات المجتمع لا تقبل القسمة على الشراكة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ولا الإثنية ولا حتى الدينية، حتى وإن بدا المجتمع خلال العقود الماضية متماسكا، فهذا التماسك شكلي وآني، وغير راسخ الجذور، وعوامل الطرد والتنافر أعمق من عوامل الوحدة والتماسك.
وإذا توقفت أمام نسبة الرغبة بالتعاون والتعايش، التي أوردها الاستطلاع، حيث عبر 52% من العرب، و50% من الصهاينة عن استعدادهم للتعاون مع الجانب الآخر. فنلاحظ في سؤالين رئيسيين، أن نسبة الفلسطينيين العرب أعلى في الرغبة بالتعايش والتعاون مع الآخر الإسرائيلي الصهيوني، وأيضا نسبة أقل في الرغبة في ممارسة العنف، والتي ولدتها الجرائم والانتهاكات والقوانين العنصرية الصهيونية البغيضة ضده وضد شعبه، وليست نزعة أصلانية لدى الفلسطيني العربي، مع أنه صاحب الأرض والوطن الفلسطيني من البحر إلى النهر. بعكس الصهيوني المستغول والمتغطرس، والذي بات راسخ القناعة، أن القيادة التنفيذية والمؤسسة التشريعية والهيئات القضائية الإسرائيلية بالإضافة للسلطة الرابعة (المنابر الإعلام) تقف إلى جانبه، وتدعمه وهو ظالم وفاجر وقاتل. بل بالعكس كلما كان أكثر عدوانية وعنصرية وهمجية ضد الآخر الفلسطيني العربي، كلما اعتبر "بطلا"، و"رمزا" للصهاينة القتلة المجرمين.
ومع ذلك، فإن الضرورة تملي رؤية الجانب الإيجابي، حيث ان نسبة الـ 50% من المجتمع الإسرائيلي، التي لديها الرغبة والاستعداد للتعاون والتعايش مع الفلسطيني تظهر ميلا جيدا، ومتصاعدا لجهة استيعاب وقبول الآخر الفلسطيني العربي، وتعمق القناعة لدى قطاع متنام في إسرائيل،
انه لا مفر من التعاون مع الفلسطيني العربي. وهو ما يساهم في فتح الأفق أمام بناء قوة سياسية واحدة مستقبلا للدفاع عن مصالحهم المشتركة في مواجهة غلاة الصهيونية الاستعمارية، ووضع مداميك سلام قائم على العدالة النسبية من خلال إزالة الاستعمار الصهيوني عن أرض الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، وضمان عودة اللاجئين الفلسطينيين لديارهم وفق القرار الدولي 194، والعمل على تعميق عملية التعايش على أرضية بناء دولة كل مواطنيها، وتجذير المساواة بين المواطنين في الدولة والمجتمع. وبالمقابل نفي وإزالة عوامل التحريض العنصرية والكراهية، وفتح أبواب السكن والعمل المشترك في مختلف الميادين، ومجالات الحياة.
الاستطلاع الجديد بقدر ما يحمل صور التشوه والعنصرية والعداء ضد الآخر الفلسطيني، والحزبي السياسي الإسرائيلي، بقدر ما يحمل نسبيا تحولات تصاعدية لصالح تعزيز التعاون والشراكة الإسرائيلية الفلسطينية. الأمر الذي يملي العمل لتطوير الجوانب الإيجابية، والاستعداد الدائم لمواجهة التغول العنصري اليميني المعادي للسلام.