"بدكم مال أكثر أم وطن أكثر؟!" سؤال كبير وجوهري طرحهُ رئيس الوزراء الدكتور محمد اشتية، لكنَّه في الحقيقة هو جواب دقيق، وبرهان على أنَّ الوطن في عقيدة المناضلين هو الثروة الحقيقية والرفاهية الأبدية، وفيه فقط يصبح المواطن غنيًّا.
ما طرحه عضو اللجنة المركزية لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" يرسم خطًّا أحمر بين مرحلة مضت، شابَها الكثير من الخلط واللغط، ومرحلة قادمة يتمُّ فيها تصحيح مفاهيم النضال وأدواته وأساليبه، ولعلَّ الأزمة المالية وقرصنة سلطات نظام تل أبيب العنصري الاحتلالي الاستعماري لأموال المقاصة سببٌ في إجراء مراجعة تضعنا جميعًا في موضع الامتحان والإجابة العملية على سؤال رئيس الحكومة: "بدنا مصاري أكثر ولا بدنا وطن أكثر".
"المال أكثر" معادلة سهلة لا تتطلّب أكثر من التحلل من المسؤوليات الشخصية والوطنية، والانفكاك عن الشخصية والهوية الوطنية الإنسانية، والانخراط بلا وعي في مشاريعه الاقتصادية تحديدًا، حتى نبلغ لحظة اللا رجعة، حيث يرى بعضنا من أصحاب مدرسة المال أكثر أن مصيرهم بات مرهونًا بدوام المحتل واستقراره أمنيًّا أيضًا!! أمَّا "وطن أكثر" فإنَّها تعني التحرر من إرهاب رغباتنا المادية والشهوانية وكسر قيودها وتجاوز طلباتها اللامحدودة، وإطلاق ثورة تنتصر لإنسانيتنا الحقيقية الكامنة فينا فالحرية أرقى وأحسن انعكاس لها، إنسانية جسدها ومازال يجسّدها المناضلون.
"وطن أكثر" يعني بلوغ ذروة مرحلة نضال لتحقيق انفكاك عن المحتل، استطاع خلال عقود من الاحتلال ربط مصادر أرزاق نسبة من شعبنا بمصالحه، فقد خطط المحتلون وأرادوا أن يكون احتلالهم (خمس نجوم)، وأرادوا لنا أن نعيش تحت الاحتلال كمن يعيش مرفها بفندق (خمس نجوم)..لكن في كتاب الشعب الفلسطيني وكفاحه ما يثبت أنَّ المحتلين لم يحقّقوا أهدافهم كافة، فالحاجة للوطن كانت عند شعبنا الفلسطيني أعظم وأهم وأولى من المال والرفاهية، حتى ولو نجح المحتلون في إحداث اختراقات جسيمة، لكنَّها لم تبلغ مستوى الخطر على الوجود أو رؤية الجماهير عمومًا البعيدة المدى لمعنى الوطن.
الوطن كنز خالد نورثه للأجيال ولكن ليس قبل التحرّر والتحرير والاستقلال وتعليم حدود السيادة، فالوطن هو المبدأ والغاية، أمّا المال فهو أداة ووسيلة فجيوب الثوار في العالم ما كان فيها أكثر من زاد يومين أو ثلاثة في جيب، وعلم الوطن وخريطته في الجيب الأخرى ورغم ذلك انتصرت ثوراتهم، عندما بلغت الفكرة النبيلة أعلى رقم في حسابات بنوك عقولهم التي ورثوها للجماهير.
ترك قادة حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" المؤسّسون ما كان كافيًّا لإدخالهم في نوادي وصالونات الرفاهية، والتقوا على قلب رجل واحد للعمل والتضحية من أجل الوطن (فلسطين) وافتدائه بأرواحهم، لم يكونوا فقراء ولا أثرياء بالمستويات التي نعرفها اليوم لهذا المصطلح، ولم يقرِّروا إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة إلّا لإدراكهم أنَّهم دون وطن سيكونون فقراء حتى ولو لم يسبقهم أحد إلى مراتبهم الوظيفية التي كانوا يكسبون منها بشرف وأخلاق وكفاءة قل نظيرها.
الرفاهية التي تحياها مجتمعات حرة مستقلة وتتمتع بالسيادة، لا تنسجم مع واقع الاحتلال والاستيطان الإسرائيلي ليس لأرضنا وحسب، بل لمفاهيمنا وقيمنا أيضًا، وتمنع رؤيتنا لآفاق المستقبل، فما بين الرفاهية تحت الاحتلال، والحرية والاستقلال والسيادة جدار مرتفع يطوقنا من كل الجهات والجوانب اسمه (الأنا).. وبتعبير أدق: "اذهب أنتَ وربك فقاتلا".
الرفاهية تحت الاحتلال تضمن ارتباطًا لا شرعيًّا بين القوة القائمة بالاحتلال، وبين رغبويين يصارعون لاجتثاث القيم والمبادئ وتسييد منطقهم المادي المجرد، أما مقومات العيش الكريمة على أرض النضال وتحت قبة سماء منطق الثورة والتحرر، فلا تعني الفقر والجوع أبدًا ولا يدخل في حسابها الحرمان، وإنما تقاسم رغيف الخبز، وشبر الأرض لإنبات شجرة طيبة تطعم الجميع، فلا الفقراء الجائعون الضعيفون قادرون على المضي في درب الكفاح، ولا المترفون الغاطسون في الرفاهية حتى أنوفهم.
الذاهبون بلا حساب إلى صالون الرفاهية والمال، قبل المرور على ميادين العمل في فضاءات وأرضيات الحرية والاستقلال، يستطيعون شراء واقتناء ما شاءوا، وكذلك التلذذ بأطيب ما يشتهون، لكنهم لا يقدرون على شراء وطن وعلَم، حتى لو دفعوا ثمن كل حبة تراب ذهبًا.. فإن كنّا قد استرجعنا جزءًا من حقنا الطبيعي والتاريخي، فإنّنا ما زلنا على العهد والوفاء للقَسَم والنضال من أجل وطن أكثر وأكبر.