في العادة ما يخلط السياسيون المركّبون من عجينة الأوهام والخرافات الدينية الأيديولوجية بين ذرّات التاريخ التي تذروها الرياح لأسطوريتها وبين الواقع والحقائق على الأرض.

واعتاد (نتنياهو) أن يخلط متعمّدًا ويوظِّف الأساطير التوراتية البالية لخدمة أغراضه باحتلال فلسطين، كما فعل بن غوريون وجابوتنسكي وهرتزل والعصابة الاستعمارية قبله، مصوِّرًا الحدث وكأنَّه عودة لأناس يسميهم (شعب) لبلادهم بعد آلاف السنين.

كما سار على عقِبَيهِ مجموعة من التوراتيين الذين جعلوا من التاريخ فصلًا من فصول التوراة! بمعنى أنَّهم قاموا بتطويع أو بالحقيقة فبركة وتزوير حقائق التاريخ لتتوافق مع أقاصيص وروايات وخرافات التوراة، أو كما أسمى سِفر القضاة فيها عالم الآثار الإسرائيلي "إسرائيل فنكلستاين" أنَّها خرافات لا حظَّ لها من الحقيقة.

وكما أشار لمجمل التوراة أنَّها لا تُعتمد أن تكون سجِلًّا تاريخيًّا موثقًا على جغرافيا فلسطين، لأنَّها بالحقيقة، أي التوراة، تشتمل على آمال ورغبات وقصص وأساطير دُمِجَت كلها معًا من قِبَل كتبة التوراة.

التوراتيون المسيحيون، أي أولئك المفسّرين للتوراة من المسيحيين الغربيين، حاولوا منذ القرن الـ18 أن يجعلوا من أسطورة (أرض الميعاد) الفاسدة دينيًّا، وكأنّها ترتبط بفلسطين بعد أن كانت الكنيسة ترى أنَّ القدس أو (أرض الميعاد) (في القرآن الأرض الموروثة) هي في الجنة، بمعنى أنَّ الأهداف الاستعمارية والعنصرية هي التي حرّكَت التوارتيين ليجعلوا من الجنة السماوية تصبح أرضية فأبدية على مجموعات أوربية من قوميات متعددة ذات دين واحد (اليهودية) لتُرسّم في فلسطين مستعمرة غربية متقدّمة.

استغلال الدين لأهداف استعمارية صِرْفَة هو ما استخدمه الفرنجة (الصليبيون الغربيون) ثمَّ الاستعماريون العنصريون البيض لاحقًا لغرض وحيد أوحد هو تدمير هذه البلاد، وتفتيت هذه الأمة إلى الأبد، وحمَلَ ذات الراية رؤساء أمريكان رأوا في الكيان الاستعماري الرأسمالي فزّاعة للأمة العربية بمسلميها ومسيحييها وبثرواتها، وطاب لهم أن يظلَّ خازوقًا في جسد الأمة دُقَّ ولن يُقلَع.

من المشهود له أنَّ الرئيس محمود عبّاس قد ردَّ بقوة لم يستطِع الكثيرون أن يفعلوها، وتمثَّل ردُّه بتبني الرواية التاريخية والجغرافية الحقيقية لفلسطين، وقال ذلك وكرَّره عشرات المرات وفي عشرات الخطابات ليضع الفارق بين الكيانات السياسية (فلسطين و"إسرائيل") على أرض فلسطين، وبين أرض فلسطين الواحدة، وطننا.

إنَّ الصِّلة بين قبيلة بني إسرءيل (ترسم هكذا برأي د.زياد منى للتفرقة عن "إسرائيل" اليوم) القديمة المنقرضة وبين محتلي بلادنا اليوم صِلة غير موجودة البتة فهم بغالبهم أوربيون وروس. إذ حين تكون عشرات الجنسيات التي اعتنقت اليهودية عبر التاريخ غير قبيلة بني إسرءيل القديمة تكون الحقيقة ناصعة أنَّ قبائل عربية أخرى ثُمَّ غير عربية من فارسية وكردية وتركية قد اعتنقت الديانة، لتتلوها في القرن العاشر الميلادي قبائل جنوب روسيا (الخزر)، فتصبح اليوم غالبية يهود العالم من قوميات غير عربية بالحقيقة ولا صلة لهم بالمذكورين المنقرضين في الكتب المقدسة (يراجع أرثر كوستلر وشلومو ساند...).

في السياق القرآني ناقشنا في كتابنا فلسطين وأساطير اليهود في القرآن الكريم الكثير حول موضوع القبيلة العربية المنقرضة (بنى إسرءيل) ومعاني (الوراثة) و(الكتابة) (التفضيل) بما هي كُتبت أي فُرِض عليهم دخولها كأمر للدعوة للتوحيد وليس تملّك أرض كأنها طابو وغير ذلك من مفاهيم خائبة.

ونضيف له هذه العُجالة وَهْم بعض المسلمين وقِلّة وعيهم أو قِلّة فهمهم للقرآن الكريم إذ يرون مثلاً أنَّ الأرض المقدسة (بغض النظر عن موقعها الجغرافي أو حجمها المختلف عليه، إضافةً لانقضاء زمنها) قد حُرِّمت على بني إسرءيل 40 عامًا ثُمّ أصبحت لهم؟! ما هو فكر توراتي بحت، أو تفسير لا نقرّه لأنّه يمثّل فكرًا عنصريًّا غير صحيح ولا يليق.

(قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ ۚفَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)-26 المائدة.

فالآية الكريمة 26 من سورة المائدة تقول "قال فإنَّها محرّمة عليهم". نقطة وأول السطر بعد كلمة "عليهم"، أي تقرَّر أنَّها محرَّمة على تلك القبيلة القديمة البائدة إلى الأبد.

وإن تاهوا 40 سنة عقابًا لجحودهم، وبغض النظر عن الجغرافيا -أي جغرافيا نشأة التوراة ومسرحها- وفيها آراء متعددة من اليمن إلى العراق إلى مصر إلى فلسطين إلى غيرها، فإنَّ الحقيقة أنَّ مصطلحات التوراة الخرافية (بالأرض الموعودة) أو (الشعب المختار) هي مصطلحات توراتية عنصرية لا شأن للقرآن الكريم بها الذي جعل من الإيمان والصلاح ونشر رسالة التوحيد وعمل الخير الخ هو مبرِّر التفضيل والوراثة والاختيار لأيِّ جماعة لإعمار الأرض والرسالة (وراثتها وكتابتها وتفضليها واختيارها-المصطلحات الواردة بالقرآن بالقصص المتعلّق بالقبيلة البائدة)، وليس المقصود بهذه المصطلحات أو الكلمات انتصارًا لقبيلة أو جماعة بشرية على أخرى حاشا لله.

الآية الكريمة تقول: (فإنَّها محرمة عليهم) ثُمّ نقطة. ثم يليها التيه لأربعين سنة أي كما يقول ابن كثير والبغوي في تفسيريهما (أنَّهما محرمة عليهم) هذا وقف تام، أي نقطة وأول السطر أي محرمة عليهم أبدًا تحريم منع.

إنَّ الحُرمة لتلك القبيلة المنقرضة -أو لمن يقتدون بها ممَّن اتّبعوا دينهم- هي حُرمة أبدية، وإن دخلوها غصبًا واستعمارًا وقتلاً وحسدًا كما حسدوا الرسول (ص)، وحاولوا قتله لأنَّه ليس منهم بل من الأميين (أي غير اليهود) فإنَّ هذا لا يزيل مفهوم التحريم، ما هو معاكس للشائع من التفسير المضلل لدى الإنجيليين المتصهينين ولدى غُلاة يهود اليوم والساسة الصهاينة بل ولدى بسطاء المسلمين.

إنّ المخطط الأمريكي الذي ظهر الجزء الأول منه متمثّلاً بالارتباط بالرواية التوراتية المكذوبة التي يحملها "ترامب" و"نتنياهو" وفريق كلٍّ منهما على أكتافهم قد تجلّى هذا الجزء بنقل السفارة الأمريكية والاعتراف بها عاصمة لـ"إسرائيل"، ثُمّ بإسقاط ملف اللاجئين والتبرُّع بالجولان لـ"إسرائيل" على طريق التبرع بالضفة أيضًا من خلال تشريع الاستعمار في خلط لم يسبق له مثيل بين الروايات والخرافات التاريخية وبين السياسة والفكر الايديولوجي/الفكراني الديني العابق بالأوهام.

ولكن للقوة سطوتها، وليست للضعيف حتى القدرة على التصدي للرواية إلّا الصمود والثبات والمقاومة أو الانتكاس والضلال والوبال.

وفي الجزء الثاني، أي في الوبال، فإنَّه يمثِّل ما هو حاصل اليوم مع أبعاض الأمة ممَّن نالت منهم أبواق الدعاية الصهيونية والاستعمارية الجديدة والإعلامية المخادعة فجعلتهم كالقشة في مهب الريح لا يسعون إلّا لإشباع بطونهم بإفراغ عقولهم وإمتاع ما بين أرجلهم وليذهب كلام الله الحق، ولتذهب الحقيقة وعلم الآثار إلى الجحيم.

 لأن في اتباع الحق عمل ونضال، وجهاد: جهاد صناعة وزراعة واقتصاد وجهاد علم وتقانة، وجهاد عمل وإبداع، وجهاد دفاع عن مقدسات الأمة، والأمة استرخت فتكرّشت فاستُصغِرت فذُلَّت.