نجحت حكومة نتنياهو الرابعة المنتهية ولايتها مع الإعلان عن انتخابات الكنيست الـ21 في التاسع من نيسان/ إبريل الماضي، في إقامة مسابقة "يوروفيجن" الغنائية، التي ينظِّمها اتحاد البث الأوروبي في تل أبيب. والتي تعتبرُ من أهم الأحداث غير الرياضية من حيثُ عدد المشاهدين حول العالم. وإمعانًا من قيادة (إسرائيل) الصهيونية الاستعمارية في تعميق الجرح الفلسطيني، وصب الزيت على نار النكبة الفلسطينية، اختارت افتتاح فعاليات المسابقة المذكورة في مساء يوم الرابع عشر من مايو / أيار الجاري، الذكرى الـ71 للنكبة، التي نتج عنها طرد قرابة المليون فلسطيني في العام 1948، وتأصيلاً لخيارها الاستعماري على الأرض الفلسطينية، وتعزيزًا لقانونها "الأساس القومية للدولة اليهودية" العنصري، الذي أقرّته الكنيست في الـ19 من تموز/ يوليو 2018.
ورغم الاعتراضات من العديد من الفنَّانين العالميين، والمجموعات الطلابية في بريطانيا وغيرها من دول أوروبا الغربية، غير أنّ اللجنة المنظمة رضخت للضغوط الصهيونية، وسمحت بإقامة المسابقة في (إسرائيل) المارقة والخارجة على القانون الدولي.
وتمَّ افتتاح الفعاليات للربع النهائي يوم الثلاثاء الماضي، وفي الخميس الموافق 16 من الشهر الحالي تواصلت المسابقة لنصف النهائي، واعتبرت القيادات الإسرائيلية أنّها حقّقت إنجازًا جديدًا بذلك، مع أنّ الشركة المنظمة مُنِيَت بخسائر كبيرة، لأنّ التقديرات للمشاركين الأجانب خيّبت آمالهم، فلم يصل لإسرائيل سوى نصف العدد المقدر، فضلاً عن الحملة التي قام بها الفلسطينيون وأنصار السلام الإسرائيليون ضد المسابقة أمام مكان إقامتها، التي أربكت أجهزة الأمن الإسرائيلية والمنظّمين على حد سواء، وفي خارج (إسرائيل) الاستعمارية نظّمت مجموعات مناصرة للسلام، وداعمة للحقوق الوطنية الفلسطينية حفلاً بديلاً، ومتزامنًا مع المسابقة في العاصمة البريطانية، لندن. وحمل الاحتفال شعار "لنحتفل من أجل فلسطين، لا من أجل اليوروفيجن"، وحضره المئات من مختلف الفئات العمرية، وشارك فيه العديد من الفنانين، بينهم مغنيا الراب لوكي وميك رابتيوش. وكان قبل ذلك أعلن عددًا من الفنّانين من 17 دولة مقاطعتهم للمسابقة "يوروفيجن"، وتلازم مع ذلك إرسال مذكرة للجنة المنظمة في أيلول/ سبتمبر 2018 من قِبَل العديد من الفنانين وحركة المقاطعة (بي دي إس) لنقل المسابقة لدولة أخرى غير (إسرائيل).
وكان الأهم الصدمة الأكثر وجعًا لنتنياهو العنصري، ولكلِّ المستعمرين الإسرائيليين عندما رفع الوفد الأيسلندي علم فلسطين يوم السبت الموافق الماضي في نهائيات المسابقة خلال تقديم المطربة العالمية مادونا أغنية لها، ليس هذا فحسب، بل إنّ فرقة الفنانة مادونا نفسها فاجأت وأربكت الجمهور الإسرائيلي عندما تخلل عرضها ارتداء اثنين من فرقتها (شاب وصبية) عَلَمَي فلسطين و(إسرائيل)، وسارا ممسكين أيديهما بأيدي بعضهما البعض، تأكيدًا على خيار السلام. ولم ينتهِ الأمر عند هذا الأمر، إنّما ما زاد الطين بلّة، عندما ظهر أكثر من فنّان من الفرقة، وهو يلبس قناعًا للحماية من الغازات السامة مرصعة بالورود، وهو ما يعني رفض خيار الإرهاب والحرب والجريمة المنظمة، التي ترتكبها دولة الاستعمار الإسرائيلية، ما أثار الاستهجان والاستنكار داخل وخارج (إسرائيل)، وأحدث إرباكًا في أوساط القائمين على المسابقة، الذين أعلنوا في بيان لهم "تلك الفقرة لم تكن جزءًا من بروفات العرض، التي وافق عليها كل من وحدة الإذاعة الأوروبية، وهيئة البث الرسمي الإسرائيلية". ونوّهوا إلى أّن المسابقة غير مسيسة، وتمَّ إبلاغ مادونا بذلك. ولكن الفنانة العالمية لم ترضخ لمشيئة ومنطق القائمين على المسابقة، وفاجأتهم بما جادت بها فرقتها الفنية بلبس العلم الفلسطيني.
وكانت (إسرائيل) وضعت ثقلها السياسي والثقافي والمالي لاستقطاب المغنية مادونا، والتي تكفل الملياردير الكندي الإسرائيلي سيلفان آدامز بجلب المغنية العالمية وفرقتها المكونة من 100 شخص من فريق عملها وراقصيها، على امل أن يساهم ذلك في تحسين صورة الدولة القائمة بالاحتلال والاستعمار، وارتكاب المجازر المتواصلة ضد الشعب الفلسطيني طيلة الـ71 عامًا من النكبات المتوالية.
النتيجة المرة، التي حصدتها دولة التطهير العرقية الإسرائيلية من إقامة مسابقة "اليوروفيجن" في تل أبيب، أظهرت أولاً فشلها في قلب المعادلة السياسية؛ ثانيًا سلطت الضوء على القضية الفلسطينية، كقضية أساسية دون حلها لا يمكن لإسرائيل أن تنعم بالسلام؛ ثالثًا رفع العلم الفلسطيني في سماء تل أبيب؛ رابعًا المقاطعة الواسعة لها في أوساط الفنانين والمجموعات الطلابية في أوروبا؛ خامسًا وما حصل من نجاح لحركة المقاطعة العالمية، كان ردًّا مباشرًا على قانون البوندستاغ الألماني، الذي شرَّع قانونًا جائرًا ضد الحركة يوم الجمعة الفائت.
هذا الحصاد العالمي الإيجابي المتضامن مع الشعب الفلسطيني بحاجة ماسة لتفعيل الجهد الثقافي والفني الفلسطيني على المستويات العربية والإقليمية والدولية لتطوير حملة المقاطعة لدولة الاستعمار الإسرائيلية، واشتقاق برنامج عمل متكامل وموسّع وممرحَل لتوسيع قاعدة الدعم للسلام وللحقوق الوطنية الفلسطينية، وعزل (إسرائيل) المارقة كليًّا في المنتديات والمنابر الفنية والثقافية.