أمام جمع غفير وأصوات مرتفعة ونظرات ترصد حركاتهم وتترقب خطواتهم.. دخلوا بكل ثقة، يتوشّحون الكوفية الفلسطينية للأولاد والثوب الفلسطيني المطرز للبنات، ألوان زاهية تبعث البهجة والسرور في أعين الناظرين، أخذوا مواقعهم، انتظروا بدء الموسيقى، وما هي إلا لحظات حتى انطلقوا بالرقص على وقع نغمات المواويل والدبكة الفلسطينية الأصيلة، تراقبهم، تعجبك سلاسة حركتهم ورقصهم بشكل جماعي متسق ومنظم، دون أي خلل أو خروج عن إطار النسق المطلوب، صورة فنية في منتهى الجمال والدقة، تلاحق حركاتهم وتناغم خطواتهم وتنقلهم بين وقع الألحان والأغاني، وفي خضم متابعتك لهم تلتفت فجأة لسيدة تقوم بإشارات لغة التخاطب مع الصم، وبعد السؤال تكتشف أن هؤلاء الصغار هم من الصم والبكم ومعلمتهم تقوم بإعطائهم إشارات وتوجيهات الرقص والحركة بلغة الإشارة. هؤلاء هم من طلبة مدرسة الصم الأساسية التابعة لمدرسة الجمعية الخيرية الإسلامية وكانوا من المشاركين في أحد احتفالات المدرسة السنوية.

كانت هذه من المرات الأولى التي أشهد فيها احتفالا يشارك به أطفال من الصم ويؤدون فقراتهم بكل احترافية وحيوية معتمدين على لغة الإشارة لا أكثر. فقد توقف الزمن بي عند استخدام لغة الإشارة للتخاطب فقط وليس للرقص على أنغام الدبكة الفلسطينية وغيرها أيضا. فلغة الإشارة ارتبطت في وعينا بأنّها لغة للتواصل بين مستخدميها، وليست لنقل صورة فنية وجسرًا للتفاعل والتواصل مع أناس لا يتقنوها كما هي الحال في هذه المناسبة.

عندما ترى هذه الصورة أمامك تدرك كم هو حجم إصرار أطفالنا على التميز، إصرارهم وبقوة على أن يكونوا متواجدين حاضرين بكل عنفوان على الخارطة المحلية والعربية والدولية. لا تمنعهم المشاكل الفسيولوجية أو العقبات اللوجستية أو خصوصية وجودنا كشعب وسلطة ومشروع دولة يقاوم الاحتلال من أجل مستقبل أفضل، صورة أطفال ينتصرون على كل الصعوبات، نجوم تتألق عطاءً وتعانق حدود السماء.. صدى حركاتهم يهز المكان وبصوت عال يقولون للعالم سنبقى هنا وسنرقص على أرضنا، سنعانق وطننا ولن نتركه للآخر، سنقاوم كل العقبات، كل الظروف، سنحميه بقلوبنا، بحبنا، وبرقصنا، وغنائنا.

كانت فقرة ضمن احتفال مدرسي، لكن معانيها ودلالاتها كبيرة، كانت رسالة من أطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولو أنه ومن هذا المنبر ندعو القائمين والمسؤولين في المؤسسات المختصة برعاية ومتابعة موضوع ذوي الاحتياجات الخاصة أن يتم تغيير هذا المسمى إلى "أطفال الهمم" لأنهم يستحقون هذا اللقب وبجدارة، فهم أطفال يوجهون رسائلهم ويقاومون مشكلتهم الأبدية، بالصمود والقوة وإثبات التواجد وحب الوطن، في وقت يصعب على الأصحاء في بعض الأوقات مواجهة أبسط الأمور.

رؤيتهم بهذه الروح وهذه القوة تبعث الأمل وتخلق الفرح، تؤكد أنه لا مكان للضعفاء على أرض فلسطين، تثبت أننا قادرون على الصمود ومواجهة الآخر رغم التحديات، من هؤلاء الصغار نستمد القوة، نكتسب الإصرار، وتصغر في أعيننا كل الصعوبات، ونعرف كيف نحب الحياة.

كم هي عظيمة تلك الدروس التي يعلمنا إياها صمت هؤلاء الأطفال، كم هي قوية أصوات حركات إشاراتهم، إنّها الإرادة، والإيمان والعمل ليل نهار حتى تصل إلى موقع متميز تحت الشمس، هي قيم ذوي الهمم العالية من بين أبنائنا، همم تبعث فينا القوة والإيجابية وتعلمنا معنى الانتصار على الصعاب ومحاربة روح الانكسار والانهزام للضعف، همم قد يغيب صوتها ولكن فعلها كبير ودورها عظيم، همم تستحق الحياة.

ولا ننسى أن نشكر القائمين والمتابعين من كافة المؤسسات المختصة في هذا المجال، على الوقت والجهد الذي يبذلونه في سبيل الارتقاء بقدرات هؤلاء الأطفال، وتحفيزهم على العطاء والمثابرة وحب الحياة، وعدم تأطير قدراتهم ضمن حدود صعوبة الكلام والتعبير، وإنما مساعدتهم على تجاوزها إلى ما هو أبعد بكثير.