تقرير: بسام أبو الرب

قبل ستة وأربعين عاما، كانت أصابع المواطن مفيد النجار (72 عاما)، مشغولة بصناعة قطعة فنية صغيرة، اعتبرها الأغلى على قلبه لأنها هدية لوالدته التي كانت تنتظر الافراج عنه من سجن نابلس المركزي.

الكلمات التي نقشها النجار على قطعة من خشب الزيتون لم تتجاوز ابعادها خمس سنتمترات، مستخدما احد الأسلاك في حفرها، حملت مشاعر الشوق والحنين لوالدته.

واليوم تحتفظ بها احدى بناته في منزلها، بعد ان ورثتها عن جدتها.

يفتح المواطن النجار باب غرفته الصغيرة، والتي يطلق عليها "الصومعة" وتعتبر عزلته عن تطورات العصر، فيقول "انتبهوا الى موضع اقدامكم فالأغراض متناثرة في كل مكان".

مخلفات بلاستيكية وخشبية وحبال صغيرة، علب مليئة بنوى حب الزيتون والفواكه، واوراق المجلات والجرائد، واكياس القهوة الفارغة، وأعواد حبات البوظة تملأ المكان، يستخدمها في صناعة تحف فنية صغيرة.

للمواطن النجار من مواليد مدينة حيفا المحتلة عام 1947، والتي هجر منها، حكاية مع حنظلة الذي جسده الفنان الفلسطيني ناجي العلي في لوحاته، فلا تكاد اية من القلائد التي يصنعها، من نوى الزيتون الا ويكون حنظله بطلها.

" عندما كنت في سجن نابلس المركزي عام 1974، تعلمت كيفية الحفر على خشب الزيتون، واستخدام اكياس "النسكافية" لصناعة الأحزمة والحقائب"، يقول المواطن النجار.

يجلس المواطن النجار خلف كرسيه، ويبدأ بنحت كلمة فلسطين على قطعة من خشب الزيتون، فيؤكد انه يجب اختيار القطعة بعناية وفي الوقت المناسب خاصة عقب تقليم الاشجار، فهو له ميزة في التحمل والتدرج الألوان فيه.

ويضيف "حبات الزيتون أيضا فائدة فنحن نحتفظ بالنوى، كي أصنع منه السبحات، اضافة الى اسوار وقلائد بعد تنظيفها".

نوى بعض أنواع الفواكه ايضا يستغله المواطن النجار لصناعة قلادة تلبسها النساء.

وكان الأسرى في سجون الاحتلال يعتمدون في صناعة اشغالهم اليدوية على مواد غير قابلة للاستخدام، كورق علب السجائر والخشب ونوى الزيتون والقماش والخيوط والاعواد البلاستيكية، في سعيهم لإيجاد نافذة على العالم الخارجي وتحدي ظروف الاعتقال.

الأدوات التي يستخدمها النجار من اجل الحفر التنظيف والتثبيت، كلها من صناعة يده دون استخدام الكهرباء في اي منها، مستخدما خواص فيزيائية معينة.

تجربة الهنود الحمر في استغلال الاتربة في علاج البشرة، والأفارقة في استخدام عظام واسنان الحيوانات وصناعتها كحلي يلبسونها، أثرت كثيرا على تجربة المواطن النجار.

النجار اعتاد على قضاء ساعات طويلة في صومعته، وفي احيان أخرى يصحو من النوم كي ينفذ فكرة خطرت في رأسه، خاصة بعد ان ترك مهنته في الألمنيوم، بسبب تقدمه في السن.

"أصنع من أعواد حبات البوظة صناديق للمجوهرات، ومن اعواد الخشب كراسي صغيرة، ومن الحبال صحون تراثية صغيرة، ومن ورق المجلات صناديق وأشكال وهدايا، ومن أكياس القهوة الفارغة كذلك ".

فوق كومة من الاشغال اليدوية، يضع المواطن النجار حزاما صنعه من اكياس القهوة، بأسلوب هندسي متشابك ومتساوي الأضلاع.

يمازح المواطن النجار زوجته صباح الحلبي التي يكبرها بعامين، فيقول "هاي الصبية ام فريد، عمرها 37 سنة، ما رح تشربنا قهوة الا بوجودكم".

" كثير من الأحيان ينسى زوجي نفسه داخل صومعته، مشغولا بصناعة بعض القطع الفنية، ونحن كعائلة نساعده في جمع ما يحتاجه من اكياس فارغة، وأعواد حبات البوظة"، تقول الحلبي.

ودع المواطن النجار طاقم وكالة "وفا"، وعاد ليشرب قهوته، في عالمه الخاص، الذي تتناثر فيه الذكريات التي يحاول ان يجسدها في أعماله.