كانت جمعة أمس، في مسجد ذي إمامٍ يُخفِّف، يرتاده المتعجلون الراغبون في خطبة مما قلَّ ودل. ايقاع الحياة هنا في قطر التي سأكون فيها حتى صباح اليوم، محكومٌ بتسارع الخطى لتغطية أكلاف العيش مع بعض البحبوحة. بات حجم المدينة أكثر من ثلاثين ضعف حجمها عندما زرتها للمرة الأولى، في تجربتي الأولى للسفر بالطائرة. ناطحات سحاب، ومتنزهات مدهشة ومترامية، شديدة الاخضرار مزنرة بأشجار جُلبت من أربع جهات الكون، ومرافق ترفيهية وثقافية، للأطفال وللكبار، وورش صناعات تقليدية مفتوحة للزائرين، ومراكز هائلة الأحجام، للتسوق، مغطاة، مما يسمونه "المولات" ونمط حياة يضاهي مثله في الغرب. 
غير أن الخطيب الشاب، الذي وقف على المنبر، أعادني الى مناخنا الاستثنائي في فلسطين، الذي يتحاشاه خطباء كثيرون في أقطار العرب والمسلمين. كانت القدس هي الموضوع. ولما كانت زهرة المدائن على الشفاه والقلوب في فلسطين، فإن أية نائبة أو واقعة إيلام، لا تستحث دمعاً ولا تثير شجناً عميقاً، بسبب أنها أحداث مطروقة تتكرر في كل يوم، حتى بات الحديث فيها، أقرب الى السياسة والملامة والتذكير بالخطر المحدق بأولى القبلتين وثالث الحرمين. غير أن الإمام القطري الشاب، في خطبته القصيرة، تسامى على السياسة ولاذ الى الوجدان، فأبدى صعوبة في نطق بعض العبارات، لأنه كان يُغالب بكاءً حقيقياً، هو من نوع بكاء الجَزَعْ من ورود الألم وعدم احتماله، مثلما شرح الإمام ابن القيّم. وفي الحقيقة، ذهب الشاب بالمصلين الراغبين في التخفف، الى تجربة شعورية ثقيلة في زمن قصير. ولما انتهت خطبته، وبدأ الصلاة، قرأ في الركعة الأولى سورة الإسراء بعد الفاتحة، وعندما وصل الى الآية السابعة، عند موضع "وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة.." أُجهش بالبكاء، على حافة أحد مبطلات الصلاة. 
انتهت الركعتان، لكن محسوبكم تسمّر في مكانه. لعله كان ينتظر انفضاض الناس من المكان، لكي يتقدم الى الخطيب الشاب ويسلم عليه. ظننته من المتزيدين في الدعاء والتسبيح بعد الصلاة، لكنني لمحته يهم بالخروج، فذهبت اليه وأثنيت على روحه الجميلة، التي نأت بنفسها عن لغة الخطباء في "مسجد عمر" في الدوحة، الذي كان فيه الشيخ القرضاوي يخلط الدين بالسياسة الحزبية، ويمزج القضايا بالمواقف في السجالات، ويُطيل في الخطبة، فتزيد على زمن خطبة الشاب نحو ساعة أو أكثر. 
على الرغم من التوسع الحضري وتقدمه كماً وكيفاً، في هذه المدينة الناهضة؛ ظل الإنسان هو نفسه. فالقطريون بسطاء وطيبون لا يتسمون بأية غطرسة من تلك التي يلمسها واحدنا عند مُحدثي النعمة أو الذين ترعرعوا في كنفها. لم تأخذهم السجالات الى البغضاء والغرور. وعلى الرغم من مرارة الدور الذي اضطلع به الحكم في السجالات العربية، ومع "الجزيرة" وسائر الإعلام؛ فإن أهل قطر لم يسمعوا كلمة واحدة تشيطن الشعوب أو الأمم. إن بعض الإعلام في بلدان أخرى، يكاد بعد أن أشبع الفلسطينيين شيطنة وتأثيماً واتهاماً؛ أن يستكمل السياق الذميم، بفقرات لتأثيم السلف الصالح والأنبياء الذين يؤمن بهم الفلسطينيون وغيرهم!
كان خطيب الجمعة الشاب، فتى من أبناء الأمة التي نعلم أننا جزء منها؛ يبكي على القدس والأقصى، من خارج السجالات. هكذا كان في مسجد المتعجلين الراغبين في الصلاة وراء إمام يُخفّف بما قل ودل!