كادت حورية الفار تفقد الأمل بتمكنها وفرقتها "الكوفية" من تقديم لوحات تراثية راقصة على أرض الوطن. فإثر فوز فرقتها بالمرتبة الأولى في مسابقة أفضل فرقة للرقص الشعبي ضمن فعاليات القدس عاصمة الثقافة العربية العام المنصرم، وُعِدت برحلة الى فلسطين لتقدم خلالها الفرقة عروضا من على خشبة القصر الثقافي في رام الله. إلا أن موعد الرحلة المفترضة الى فلسطين ألغي وتأجل أكثر من مرة حتى بات تصديق إمكانية تحقيقه أمرا مستحيلا، إلى حين تلقيها بعد طول صبر وانتظار نبأ يجزم بموعد السفر مطلع الشهر الحالي. إذ شفع انعقاد مؤتمر الاستثمار الدولي الذي عقد في بيت لحم، لوزارة الثقافة الفلسطينية وللجنة الوطنية للتربية والثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية "لتضربا عصفورين بحجر"! فمن جهة تفي بالوعد الذي قطع لفرقة "الكوفية" بتقديم عروض في أرض الوطن، ومن جهة ثانية تتمكن من عقد الملتقى الثقافي التربوي الثالث الذي كان من المفترض انعقاده في الأردن، في فلسطين. هكذا، تم استصدار تصاريح مستعجلة لأعضاء من فرقة "الكوفية" ولمجموعة من شباب المخيمات في لبنان وآخرين من سوريا والأردن تحت مظلة المشاركة في مؤتمر الاستثمار، تخولهم البقاء عشرة أيام في فلسطين وزيارة أي بقعة فيها.

هكذا، بدأ المشاركون بالتوافد من مختلف مخيمات لبنان الى نقطة التجمع والانطلاق من مقر السفارة الفلسطينية في بيروت مساء الاثنين 31-5-2010، حيث سادت أجواء من الترقب والإرباك واللاصبر بينهم في انتظار الإذعان لساعة الصفر لانطلاق الحافلة باتجاه فلسطين، وسط توصيات الأهل والأصدقاء لهم بإحضار "ترابات من البلاد" ودعوات لتقبيل الأرض نيابة عنهم ونقل سلاماتهم لأهلها.

تنطلق الحافلة أخيرا، لا أحد مستوعب لحقيقة الأمر بعد. "هل نحن فعلا ذاهبون الى فلسطين؟" "بالطبع لن يسمحوا لنا بالدخول"، "سيختلقون أي حجة لمنعنا من الوصول إليها"، "لماذا يبدو هذا الحلم حقيقيا لهذه الدرجة؟" هواجس تبادلها الشباب في الحافلة. سرعان ما تبددت مع عبور النقاط الحدودية اللبنانية والسورية. ما هي إلا ساعات وتنضم المجموعة الثانية من مخيمات سوريا الى الحافلة التي وصلت مع ساعات الشروق الأولى إلى الحدود الأردنية، حيث الانتظار كان أشبه بقصاص قاس. الارهاق والقلق سيّدا الموقف الآن، أخبار عن رفض ختم جوازات السفر، استنفار لإجراء اتصالات "رفيعة المستوى" هنا وصلوات لإتمام الأمور هناك، لم تجد نفعا بعد. جاءت الأوامر بصعود جميع الركاب الى الحافلة والعودة أدراجها الى بيروت. الحظ كان حليفا لشخصين فقط ممن يحملون جواز سفر لبناني الى جانب وثيقة سفرهما "الفلسطينية". إنها حتما سخرية القدر! تخيلوا "لبنانيّان" يحصلان على ختم يخوِّلهما المرور من الأردن باتجاه فلسطين، وفلسطينيون حرموا منه ليعودوا باتجاه لبنان. الأمر دفع بأحدهم للتضرع للسماء ومناجاتها "لمرة واحدة فقط لمرة واحدة، كن بصفـّنا يا رب، كن الى جانبنا". أجواء من الخيبة والذهول تخيمان على الجميع، المساعي "رفيعة المستوى" في أوج استنفارها. ست ساعات على الحدود الأردنية مرت كالدهر. أخيرا يشفع القدر لنا. تتفتح أسارير وجوه الشبان والشابات في الحافلة، النبأ أعاد لهم الروح. بعد إتمام المعاملات،  يعلو التصفيق والغناء "وين ع رام الله... وين ع رام الله.. ولفي يا مسافر وين ع رام الله".

تتابع الحافلة سيرها باتجاه فلسطين، يكتمل الوفد بانضمام المجموعة المتبقية من الفلسطينيين في الأردن. "أصبحنا نقترب من فلسطين أكثر فأكثر"، "حلم العودة أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق أخيرا". الآن حان تبديل الحافلة، يهمّ الجميع بنقل أمتعتهم للحافلة الجديدة المتجهة الى جسر الملك حسين النقطة الأكثر قربا لفلسطين. الصمت والذهول يخيمان على أجواء الحافلة،  بدأت فلسطين تتكشف رويدا رويدا، كفاتنة تكشف النقاب عن وجهها تدريجيا، كشمس يغسل النسيم قرصها من كومة غيم غيّبتها. ومعها بدأت دموع الفرح تغسل ملامح الإرهاق عن الوجوه. ما هي إلا دقائق تفصلنا عن فلسطيننا. دقائق تحولت الى ساعات بين تبديل للحافلات وتسلم لتصاريح مليئة بأحرف عبرية تبحث فيها عن شيء تفهمه لتجد عبارة "السلطة الوطنية الفلسطينية" متربعة أعلاه، لتتملكك رغبة بالانفجار باكيا، لكونك تحمل ورقة غبية يأذن لك فيها المحتل لوطنك بالدخول اليه! سرعان ما تطرد الفكرة من رأسك، فلا وقت للدراما الآن، لن تسمح للاحتلال أن ينغصّ عليك فرحة تعميدك بنسيم فلسطينك، بأشعة شمسها، بذرّات متناثرة من ترابها.

تدوم نشوتك لفترة قصيرة، فالاحتلال وجهه بشع أبدا، ويأبى إلا ان يذكرك بمدى بشاعته. تصل الى "نقطة" تحت سيطرته. وللحظة، ولولا تأكدك من أن هذا العلم أمامك هو علم لدولة الاحتلال "إسرائيل"، لاعتقدت أنك في مطار الأردن نظرا لوجود صور للملك الأردني الحالي والسابق تزيّن جدران قاعة الانتظار. هنا، والآن، احتكاكك المباشر مع المحتل، ستقدم له أوراقا تبرر سبب زيارتك الى وطنك، الى أرضك! يُعدِّل الجميع من كوفياتهم لتصبح أكثر بروزا، ومن ملامح وجوههم لتظهر أكثر تحديا لجنود الاحتلال.  تمرّر لهم التصريح مرغما، تتعمد بإظهار اشمئزازك للابتسامات المزيفة على وجوههم ولعبارات الترحيب المصطنعة "أخلا وسخلا" (أهلا وسهلا). يسألك أحدهم "من وين انت؟"، تنظر اليه، تجيب: "من عكا". يعيد تكرار السؤال بتعجب: "من وين؟!"، تعيد على مسامعه ببطء وبصوت أعلى "من.. عكا"، فأنت رغما عن أنفه من عكا وعائد إليها. تتابع سيرك حيث جهاز الكشف عن المعادن، كثيرون كانوا مستعدين سلفا إذ خلعوا أحذيتهم وأحزمتهم ووضعوا هواتفهم جانبا. هكذا، وبعد الانتهاء وركوبك حافلة جديدة تتوجه بك الى أريحا، تشعر بأنك بتّ بفلسطين أخيرا حيث لافتة "فلسطين ترحب بكم" تتصدر الشارع الذي تمر به. تتنفس الصعداء.

بتنا الآن في بلدية أريحا، وسرعان ما تناسى الكل ارهاقه. بين بكاء وغناء وفرح وتقبيل للتراب، امتزج الحلم مع الواقع. حلم اللجوء وواقع العودة. الآن فعليا أنت لست بلاجىء. أنت بكل بساطة على أرض وطنك وتحت سماء وطنك، تحت نجومه وقمره، وبين شعبك وأهلك، ورجال أمنك.  من هناك، من مكتب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، تنتقل الى رام الله حيث تقضي ليلتك الأولى في فلسطينك.