بقلم: محمد سعيد

في ذكرى ميلاد محمود درويش

جمال الأنا

بالعودة الى قصيدة لاعب النرد، التي حملت في طياتها عملية خلق وولادة لانسان وشاعر اراد أن يقدم صورة هذا المخلوق على النحو الذي ارتآه، لازالة كل التباس علق في أذهان البعض، وليكون صادقاً مع نفسه، وواضحاً وجلياً، قبل أن يكون مع الآخرين. حاول محمود درويش أن يقول، هذا أنا بدون أي غموض، وهكذا رأى نفسه. في ذكرى ميلاده ارتأيت أن أبحث عن هذا الأنا – الانسان، وارتأيت أن أبحث عن مكان رِقّته واستراحة قلبه، متحسساً خيوط الحكاية في زوايا العتمة التي حيكت ليلاً على صفحة المساء لتغوص في ذكرياتٍ يعلوها ضباب التعب وأريج ذوائب الشجر. تعابير كثيرة تنفجر أوتاراً تدغدغ قلوب النسمات، وتداعب صفير الريح في براري الأبدية. تعابير أبحث عنها في ريشة طائر، وعتمة رصاصة عمياء مزقت جسد الحياة. أخرج الى الشرفات كضرير خلف فراشة لا يريدها أن تبعد كثيراً، يريدها هنا في نزهة أمام ناظريه، فالحياة أصبحت مستحيلة، الحياة لعبة نرد إما تصيب أو تخيب لكن، باستطاعة الفراشة أن تكون في أكثر الأراضي غرابة، حتى في البلدان التي شبّ فيها الحريق، ولم يعد فيها رجاء غير اللجوء إلى أوراق مكتوب عليها بحبر السنوات، لتعطينا مكاناً بين الكلام الحالم والواقع المر الذي تحوّل الى جواز سفر، وخيمة، وبرك دم. خلال قراءتي لقصيدة لاعب النرد، وجدتُ فيها هذه المعاني، وهذه الفراشة التي ما فتئت تبحث عن الذات بوحدانية وفرادة ترقى الى ما يمكن أن يسمى عقل اللغة، أو لغة العقل الشعرية التي انبثقت من حصار بغيض، وامتشقت روح المعاني، وركبت حصان الغيب مسافات بعيدة. وحدانية قلما وجدناها في كتابة، أو معزوفة. في هذه القصيدة دفء، وصور، وإلفة، وكلام موجع، وزمن مطمور بالثلج، وصراحة اللحظات الأخيرة قبل الإفتراق إلى رماد الحياة. هذا النصّ – القصيدة – انفجار الذات على وقع  دندنة عود على سرير المفاجأة، ورعشة ألم تخنق أحلام الومضات الأخيرة. لاعب النرد قصة مطر ونعاس، حكاية حياة في يوم عيد، وتسريحة عصفور على شجرة خضراء. لو كان درويش حياً هذه الأيام ماذا كان سيقول عن هذا الدمار المتشظي في جسد الأمة؟ وعن هذا الدفق النازف من حنايا الذات، ومصائر الأجيال التي تُسحق بأبجدية جهنم تحت رحى الدمار؟

 

بحثاً عن الهواجس

فكرة التعاطي مع نص لاعب النرد، بدت في مخيلتي، كمن يقترب من مكمن أسرار يصعب سبر أغواره، والاحاطة بجميع مفرداته ودلالاته، فالنص يفتح الباب أمام مفاجآت تزخر بأدق تفاصيل الحياة الداخلية، وبالأحلام، والوقائع التي تتماشى مع روح الانسان، والذي يبدو هنا في ارقى تجلياته وضوحا، أوغموضا، أوتعبيراً، باستخدام الاشارات الرمزية والدلالات العميقة والمعاني الانسانية المتجذرة والمتمحورة حول جوهر الذات، والتعبير الصادق، والأمانة في رسم صورة الذات، وسيرة الشاعر في سياق تراجيدي ملتحم بالزمان والمكان، المنفلت من كل عقال يروي سيرة شاعر قدّم أدق تفاصيل حياته في لحظة وداع.

فكرة التعاطي مع قصيدة لاعب النرد، والدخول في تفاصيل لمعانها، بالوصول الى أبعادها وتموجاتها، فكرة  جريئة دغدغتني كمياه ساقية تسقسق، خصوصاً لحظة الوقوف أمام  كينونة الوجود والمعنى، حيث منشأ الولادة المجاور للبئر، تحت ظلال الشجر، حيث هناك كل عناصر الشجن متوفرة لمجيء المولود، الكائن البشري الذي انتمى الى عائلته بالصدفة، وكان له هذا الاسم، وهذه الامراض، وهذا الخجل؛ وفنجان البابونج للشفاء من الانفلونزا! ليس صدفة ان يكون الحس بالانتماء احد اسرار سيرة الفرد، وليس صدفة الالتفات الى ذات الفرد،  فالانسان بطبعه يرزح تحت سلطة الأنا، ولكن ليس من طبعه أن يكون شاعراً ومستحوذاً على كل صفات الذات، وفي نفس الوقت يأخذ صفات الناي، وصفات الحجر، كما في قصيدة لاعب النرد، تلك الدراما المؤلمة، التي انتجتها ليالي الشتاء، وصداح القبّرة، وهرولة الظبي فوق التلال الوعرة. كان محمود درويش يتحسس الأحلام والمواجع والشامة وصرخة الولادة، ونغنغة البحر؟! يمشي ويتعثّر، يتغيّر ويتبدّل، ويتكوّن، يعلو ويهبط، ويقرأ تراتيل الميلاد على ضوء قنديل، ليغوص في اعماق الصورة الانسانية لتظهير الحالة الفردية لانسان يريد ان يقول انه كالآخرين، لا يمتاز عن غيره سوى بما تكون عليه فرديته، وخصوصيته في هذه القصيدة. انه لاعب نردٍ يربح ويخسر، ينجح ويفشل، هي قصة الحياة فيها الصعود والهبوط هي لعبة الداخل، لعبة النفس، اخراج الداخل الى العلن، تمثيل مسرحي، ومسرحة حالة الفرد ونقل الاحاسيس على طبيعتها الى العلن، بكل تقلباتها النفسية وتصويرها على طبيعتها بكل غموضها ووضوحها، لتصبح الحدث والقدر، في سياق قصيدة لاعب النرد، هذا المولود المتقلب على نار الحظ السيّئ والأمل المتعثّر، والدخول في تفاصيل الاحداث اليومية التي يتعرض لها الانسان، والوقوع في براثن القدر الذي يلعب بنا، فيظهر هنا الرابح والخاسر -  وما دوام الحال الا من المحال -  هكذا جاءت القصيدة على مستوى الخطاب، الشكل، الاحداث، السيرة، فعلى مستوى الخطاب؛ فإنها خاطبت الذات "الأنا"، المتمثلة في الشاعر، وخاطبت في نفس الوقت، الآخر، اي الانسان المقابل لذات الشاعر الذي يظن وهو مخطئ في ظنه أن طبيعة الشاعر وتكوينه وأحاسيسه يمكن ان تكون غير هذا الآخر. ففي خطاب الذات – الآخر -  أراد الشاعر ان يتخلص من هذه الثيمة ويرسم شخصيته الخفية بوضوح يعكس ما خفي من ملامح هذه الشخصية على حقيقتها الى الملأ، أي أنه انسان مولود له اسمه وأعراضه وأفراحه وأحزانه ومشاهداته كأي آخر في هذه الحياة. على المستوى الشكلي، هناك نقطتان، الأولى وتتلخص في أن الشاعر أعطى القصيدة شكلاً مختلفاً عن قصائده السابقة من حيث البناء الهرمي للقصيدة، فجاءت معبرة اصدق تعبير عن حالته النفسية والتأزم الداخلي بنبرة سردية،  ومنولوج داخلي تلقائي ذي وتيرة منسابة بطبيعيّة وموضوعية متناسقة ومنسجمة مع الحالة النفسية الداخلية لحظة كتابة القصيدة. فالقصيدة ببنائها الهندسي شبيهة بحالة الشاعر النفسية. النقطة الثانية ان البناء العام للقصيدة يعتبر خطوة متقدمة في مبنى القصائد في الشعر العربي الحديث، فهي هادئة حيناً وعاصفة حيناً آخر، وتتكثف حيناً وتستطيل أحياناً، بصياغة متناهية الدقة في نقل الحالة النفسية للرابح والخاسر مع الحياة. فتارة يقترب من نفسه، وتارة يبتعد، حتى بات مع كل حادث في أماكن من أمكنة الذات والآخر، يشعر بالسفر الطويل والاغتراب في طبيعة ليست من مواد نعرفها، بل طبيعة تحتاج الى قدرة هائلة لننساها تعبّر عنها كلمة صغيرة هي من "أنا".

 

لاعب النرد الحالم

 أما الاحداث فهي احداث متقلّبة، فهو يلعب دور المؤلف، ودور الحبيب، ودور الضحية، وهو يقع في حب هنا، وينجو منه هناك، كما يقع في الموت، وينجو منه مراراً. وأثناء هذه وتلك،  يكتشف الاسرار، ما أعطى عمقاً وزخماً في التجربة، وغنى وقوة، وحضوراً مميزاً. على مستوى السيرة والتنوع، فهي تطرح سيرة انسان بكل سلبياتها ومطباتها وتقلباتها، اعتباراً من الولادة حتى لحظة العدم. "ولدتُ الى جانب البئر"، بوميض كأنه البرق؛ وكفراشة تسبح في الفضاء مروراً بالنجاح والفشل، والتعرض لأقسى انواع الاحداث التي تعترض الانسان وتمتحنه في حياته وعلى كافة مستويات التجارب والألم. "كان يمكن الاّ اكون انا "، "ومن حسن حظي أني أنام وحيداً / فأصغي الى جسدي/ وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم/ فأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق/ عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة/ وأخيّب ظن العدم/من أنا لأخيّب ظن العدم؟." هي الأنا – السيرة التي روت قصة حياة شخصية لإنسان كان له دور كبير ومميز على صعيد الشعر العربي والفلسطيني والعالمي، والذي رغم هذا التفوق والمدرسة العظيمة التي تركها لاجيال واجيال. وبكل تواضع يقول "من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم" علماً أنه يحق له أن يقول الكثير الكثير! فالصيغة الاستفهامية، الواضحة القاسية في آن، هي التي فتحت الباب واسعاً للتساؤل امام هذا التواضع الجمّ، وأمام الأنا البسيطة التي شاهدناها في لوحة تعبيرية جميلة عظيمة ومؤلمة وغنية في نفس الوقت. لاعب النرد قصيدة مليئة بالحركة والحياة والبساطة والعفوية الى حد يفوق التوقع والاندهاش لما يكتنفها من جدلية التناقضات بين الأنا والآخر، بين المعنى والكلمة، بين الروح والجسد، بين الألم والأمل، وهي جدلية لتجسيد الذات من المعاناة وكتابة الوجود على شفير القصيدة، كأنه ينقل من كتاب مفتوح خلجات قلبه وخطوات دمه وجريان روحه في واقع يبحث عن واقع حقيقي، فينتزع الكلمات من داخله بريشة قلبه، كأنه يكتب داخله على رقعة بيضاء من سراج النور، ويرصد ما هو عليه من عالم الانسان داخل النفس، وما هو عليه في العالم الواقعي. فالشاعر يعبّر عن تجربة شبه مستحيلة في زمن الانهيارات والاضطرابات الاسطورية. موقف يتحكم ببناء القصيدة ويجعل الحبر ينطق، والصمت ينطق، والكلمة تشهد على بزوغ الحياة من العبرة والوجود الذي يكتنف نفس هذا الشاعر. فكرة التعاطي مع نص لاعب النرد تفتح الباب لأدق تفاصيل الحياة الداخلية؛ لاكتشاف كنه الانسان وما يساوره من مشاعر وتطلعات، والذي يبدو هنا الانسان في أرقى تجلياته الانسانية والفكرية والوجدانية، يضاف اليها قوة المشاعر المرسلة والقيم المعنوية التعبيرية المهيبة التي تلتقي مع الأحاسيس دون افتعال؛ بطريقة سردية آخذة بعين الاعتبار اللغة الحرة والمعنى العميق الذي يستولي على النفس، والعبور بها الى أقرب غيمة تشق قلب الكلمات، لتخرج منها حياة انسان متوهجة، وصاخبة، وشاعرية؛ تطفح بشجن عميق عندما تموت آخر الكلمات في رأس آخر العظماء.