تحمَّل المجتمع الدولي المسؤولية عن نكبة الشعب الفلسطيني، بنفس مقدار ما تتحمّله الدولة القائمة بالاحتلال (إسرائيل)، فعدم اعترافها بالمسؤولية المادية والأخلاقية المباشرة عن تهجير ملايين الفلسطينيين وحرمانهم من العودة إلى وطنهم، ونكران قادة أحزابها، والكنيست الجرائم ضد الإنسانية والفظائع التي ارتكبتها ميليشيات الأحزاب الصهيونية، وما تلاها من عمليات إرهاب منظمة أدّت لتهجير مئات آلاف العائلات من قراهم ومدنهم، ومحاولة قادتها الجدد لانتزاع اعتراف من قيادة الشعب الفلسطيني بيهودية دولة (إسرائيل)، أو أنّ (إسرائيل) دولة اليهود، هو إصرار الجريمة وتزوير الحقائق والوقائع التاريخية.

يظهر قادة (إسرائيل) السياسيون وغيرهم من المفكّرين كمَن يسعى لتغيير اتجاه دوران الأرض.. فحق العودة للاجئين الفلسطينيين، مرتبط بالقرار الحُر والإرادة الفردية للاجئ الفلسطيني، باعتباره حقّا إنسانيّا ومقدّسًا، لا تملك قوة في العالم منع أصحاب هذا الحق من تحقيقه. كما أنه لا يسقط بالتقادم أبدًا.

تَمَسُّك اللاجئين وقيادتهم السياسية بحق العودة إلى أرضهم الطبيعية والتاريخية، ليس خيارًا، وإنَّما هو قدر، وتعبير عن معنى الانتماء الوطني، ورغبتهم الأكيدة للشعور بالوجود والإحساس بالكرامة الإنسانية.. فلا كرامة لإنسان بلا وطن، ولا وطن من دون أرض، ولأنهم يعتزون ويفخرون بهُويتهم الفلسطينية، فإنّهم يدركون ويؤمنون أنهم الجزء الآخر من الوطن، شعب أرض فلسطين.

كان ولا يزال الخامس عشر من أيار من العام 1948 تاريخ الجريمة ضد الإنسانية المستمرة منذ 71 عامًا، فهذا اليوم هو خلاصة مؤامرة دولية كبرى استهدفت إنهاء وجود شعب آمن مسالم، هو اليوم الذي استُخدِمت (إسرائيل) كدولة احتلال كرأس حربة، وطمست القوى الكبرى حينها صور إرهاب ومجازر جيشها ومنظماتها الإرهابية.. لكنه بالنسبة لنا فرصة للاطمئنان على جذورنا الثقافية والتاريخية الذاهبة في مدى الزمان اللامحدود، على أرضنا وفرصة سنوية لاستشراف مستقبلنا الحتمي على أرضنا.. والبرهان للعالم أن التهجير القسري والتشريد الفعلي للملايين من أبناء شعبنا في العام 1948، وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية المنظمة، وحرمانهم من العيش أحرارًا في بيوتهم ومدنهم وقراهم وأرضهم التاريخية والطبيعية التي ورثوها أبًا عن جد منذ بدء الخليقة، وأنّ هذا الشعب شعبنا رغم استهداف بنيته الثقافية والاجتماعية، إلا أن تمسكه بالعودة أقوى من الأمس.

لا توجد قوة في العالم قد تجبرنا على إسقاط هذا الحق، لأنَّ الذين أُجبِروا على الهجرة قد حملوا الوطن في قلوبهم وعقولهم وذاكرتهم، وحماه الذين بقوا جذورًا تاريخية برهانًا على عراقة وامتداد صلة الإنسان الفلسطيني بأرضه المقدسة.

يقف المشروع الاحتلالي الاستيطاني الصهيوني عاجزا عن تحقيق كامل أهدافه، فيما يبلور الشعب الفلسطيني هويته الوطنية الفلسطينية، فالشعب الذي خطط له أن يكون مجرد لاجئين في دول الجوار والشتات، بقي شعبا بهُوية وطنية وقومية وإنسانية نالت اعتراف واحترام كل الشعوب والأمم والدول في العالم.

العالم مطالب بالتصدي لحل قضية اللاجئين وفق المرجعيات القانونية الدولية المشروعة، والمبادرة العربية، واعتبار نكبة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ العام 1948 جريمة ضد الإنسانية، هي السبب الرئيس لانعدام الاستقرار والسلام في منطقة الشرق الأوسط، فالفلسطيني سيبقى مؤمنًا بحقِّه المقدس في العودة إلى أرضه وبيته بالسلام.

النكبة في المخيّم

مجازر وإنسان يتحدى الغُزاة على أرضه بالذاكرة، بالإرادة، بالصبر والبصيرة والبصر.

النكبة هي النكبة.. والمأساة صور بصرية وقلمية تذوب الصقيع، تحرر الضمائر الإنسانية من التجمد والتوحد.

أُمٌّ تهرول باكية.. تمسك بغطاء رأسها.. تتفادى رصاص الغزاة المنفجر على جدران بيوت وأكواخ يكاد صفيح سقوفها لا يقوى على التصدي لحبات المطر!!

تتقدَّم بخطى متعثّرة بأثقال الحزن والرعب الممهور بخاتم الغزاة المرعبين الباطشين بإنسان.. إذا سئل ما ذنبك؟ قال: "أنا فلسطيني"!

كهل قابض على ساعد طفله بيمينه، ويساعد حفيدة "بنت النكبة" على تخطّي أكوام الركام مما تبقى من روضة تل الزعتر، دموعها تسبق رغبتها في التعبير عن مصابها.. فقد شوّه الغزاة محيا صباها بالألم الذي زرعوه حزنًا ورعبًا في قلبها ومحياها.

تأخذ نفسًا عميقًا، يتقاطع صوتها المتهدج مع أزيز الرصاص الخارق لسكون تل الزعتر وآمال ومستقبل الصبية المفجوعين.. هي لم تصرخ ولا نفشت شعرها.. ولا مزّقت ثوبها، وإنّما لها صبر وألم عميق يمزق جلاميد الصخور.

بتماسك روت مصابها: قتلوا أبوي.. كان يطل من البلكونة، فطخوه برأسه.. إيش ذنبه أبوي!؟ ما عمللهم شي.. الله يرحمك يابا.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. أبوي أصم ما بيحكي وما بيسمع.!! عرفتوا الحقيقة يا ناس؟!

أراد والدها الأصم تحدي الغزاة ولو بالبصر.. بالنظر إلى أرضه وبيوت أحبائه ومن حل حولها وما حل فيها.. ليشهد كيف جعل المحتلون الغزاة عاليها أسفلها، فقتلوه لأنهم لا يريدون رؤية فلسطيني يحن إلى أرضه ويخاف عليها كما أبناؤه!!

شاهد العالم دموع ابنة الشهيد تحكي رواية الإنسان المبتلى بالشر المندفع عبر الحدود إلى قلب بيوتنا، أوطاننا الصغيرة وصدورها الآمنة.

صغار حفاة.. بقطعتين من اللباس، وبطون جائعة.. يتهافتون على قارورة الماء.. فالجيرة تقضي أن نعيد النبض الطبيعي لشرايين الأطفال المرتعبين، فقع وجوههم اصفرار الخوف الهاجم عليهم كزخات رصاص المحتلين.

بيد تشد رضيعها إلى صدرها تدير ظهرها إلى مصدر الرصاص. والثانية، والثالثة تحمل كل منهما طفلين.. تلاحقهما طلقات الجنود المهووسين.. تحتمي النساء وأطفالهن بجدار.. يغامرن بالمرور من درب مكشوف.. أم الرضيع المرتجف عبرت به درب الموت المسلط عليها وعلى ذريتها.. فكم موسى في أساطيرنا يا ترى ؟! يتعالى صراخ المتجمعين، يشيرون للرجل وعائلته إلى ممر الأمان...

أطفال صغار يتراكضون الواحد تلو الآخر يدفعهم الفزع.. يحنون ظهورهم، يتلفتون بحذر تكاد عيونهم تسبقهم إلى حيث يتجمع أهلهم الهاربون من وحش مرعب متعدد الرؤوس والسبطانات.

ثلاثة.. يتبعهم اثنان أمّا أبوهم فيحمل أصغر اثنين والأم تضم رضيعًا تحميه بجسدها القوي المشبع من خير الأرض المثمرة زيتونًا وبرتقالاً وعسلاً من مناحلهم وبيضًا من مزارع دواجنهم الحديثة..

جرف الغزاة المحتلون بيارات وشجر نخيل سيزرعها عندما يعود الغزاة عن جبروتهم واستكبارهم ويدركون أن الشعب الفلسطيني موجود واللاجئ الذي سيعود، شعب مُحبٌّ للسلام.

تزيدهم المحنة حكمة ولا تلوي المصائب أعناقهم. ولا تنكسر لهم إرادة. هكذا قال أبو الأولاد: الحل ليس عسكريًّا الحل نراه سياسيًّا، لقد أبدينا استعدادنا للسلام.

تنتصب في شوارع المخيّم بيوت الشرف، فهنا يبغضون نعت الاستشهاد بالموت، فالحرب قد نشرت في سماء الوطن رياحين الزهور البرية العطرية التواقة للحرية أبدًا.

أطفال.. فتيان أجبرهم العدوان على مغادرة مقاعد الدراسة يتعلمون بمنهج قسري -فرض عليهم دروس الحرب- فملأوا أكياس الطحين الفارغة الموشومة برسم "الأونروا" والعَلم الأميركي بالرمل وحولوها إلى متاريس في الأزقة الضيقة!!! إنّها لعبة الحرب على خلفية جريمة وإرهاب دولة مجهولة الحدود تسمى (إسرائيل) وجيش استيطان واحتلال بلا حدود.