خاص مجلة "القدس"العدد 343 تشرين الثاني 2017/ بقلم: صقر أبو فخر

كان الخروج الفلسطيني من بيروت في صيف 1982 كارثة فعلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد تناثرت مؤسساتها هنا وهناك، وتشتت مقاتلوها في أماكن عربية متباعدة. وفي قمة فاس في المغرب في 6/9/1982 خرج جميع الملوك والرؤساء العرب لاستقبال ياسر عرفات حين وصل إلى المدينة قادماً من أثينا (ما عدا حافظ الأسد). وأدرك أبو عمار أن هذا التكريم وحده لا يمنحه أي نفوذ سياسي، وعليه أن يعمل بقوة وبسرعة لاستعادة المبادرة، وإعادة هيكلة الثوابت العسكرية، ولملمة المؤسسات المعطلة، وإطلاق دينامية دولية ليبرهن أنه ما زال اللاعب الرئيس في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي على الرغم من الانشقاق الذي وقع في القوات العسكرية في لبنان في 9/5/1983، واغتيال العميد سعد صايل (أبو الوليد) في البقاع اللبناني ثم عصام السرطاوي في البرتغال، وفي تلك الأحوال أُرغمت القوات الفلسطينية التي بقيت في لبنان على الانسحاب نحو مدينة طرابلس ومخيم البداوي ونهر البارد تجنباً لمعارك ما كان في الإمكان تجنبها جراء إصرار الخصوم على خوض معركة تصفية في وجه ياسر عرفات.
دُهش العالم آنذاك عندما عرف أن ياسر عرفات الموضوع تحت الرقابة اليومية للاستخبارات الإسرائيلية والأميركية، قد تمكن من الوصول إلى مدينة طرابلس بالبحر ليخوض مع خليل الوزير (أبو جهاد) عملية الدفاع عن قواته في وجه المنشقين وحلفائهم.
وما إن غادر أبو عمار طرابلس على رأس خمسة آلاف مقاتل في 20/12/1983 حتى كانت خطة المرحلة الجديدة قد بدأت تتكامل في رأسه.
شُغل ياسر عرفات طوال العام 1984 بإعادة ترميم البيت الفلسطيني. لكن، ما كاد العام 1985 يطل حتى اندلعت الحرب على المخيمات في لبنان سنة 1985. وفي 1/10/1985 أغار الطيران الإسرائيلي على مقره في تونس، وكان الهدف اغتيال أبو عمار بالتحديد. وأيقن أبو عمار حينذاك أن ثمة اتجاهاً دولياً وعربياً لشطب "م.ت.ف" غير أن اندلاع الانتفاضة الأولى في 7/12/1987 أعادت المنظمة إلى الخريطة السياسية والدولية، وأعادت إلى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ثقته بنفسه، وجعلت عيون العالم تلتفت مجدداً إلى فلسطين. وكان لفشل الحرب على المخيمات في القضاء على وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ثم اندلاع الانتفاضة شأن كبير في إعادة الاعتبار لياسر عرفات كلاعب مهم في الشرق الأوسط، أو بوصفه اللاعب الأهم في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
وفي هذا السياق قام بأول زيارة له إلى البرلمان الأوروبي في ستراسبورغ في 13/9/1988، الأمر الذي مكّنه من وضع أولى خطواته على طريق طويل ومعقد وشائك أوصله إلى إعلان اتفاق المبادئ (اتفاق أوسلو) في سنة 1993.

إعلان الاستقلال وما بعده
استثمر ياسر عرفات هذه الانجازات في عقد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 12/11/1988. وفي ختام هذه الدورة، أي في15/11/1988، فاجأ أبو عمار العالم، وبحضور أركان المعارضة الفلسطينية أمثال جورج حبش، بإعلان الاستقلال الفلسطيني الذي صاغه الشاعر الكبير محمود درويش. وكان هذا الإعلان تحولاً مهماً في اللغة السياسية من حيث التشديد على السّعي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة بحسب قرارات الشرعية الدولية. وعلى الفور أراد الشهيد ياسر عرفات أن يذهب إلى الأمم المتحدة في نيويورك حاملاً بيده "وثيقة الاستقلال"، لكن جورج شولتز وزير الخارجية الأميركية رفض منحه تأشيرة الدخول، فما كان من الجمعية العامة للأمم المتحدة إلا أن انتقلت إلى جنيف للاستماع إلى كلمته. وفي 3/5/1989 وصل إلى باريس في أول زيارة رسمية له إلى فرنسا والتقى الرئيس فرانسوا ميتران. وكان يردد في تلك الحقبة أن منظمة التحرير الفلسطينية قد عادت إلى الخريطة السياسية، ومن يكن له موقع على الخريطة السياسية فلا بد أن ينتزع له يوماً ما موقعاً على الخريطة الجغرافية. وفي هذا السياق تمكن من عقد المؤتمر الخامس لحركة فتح في تونس في 3/8/1989، وأعاد الوحدة إلى حركة فتح، وبرهن أن الانشقاق الذي وقع في 9/5/1983 لم يستطع أن يؤثر في الحركة، ولا سيما أن معظم الذين انحازوا إلى المنشقين في البداية، عادوا إلى صفوف فتح في ما بعد، أو انسحبوا من تنظيم الانشقاقيين تباعاً.
فاجأ اجتياح الجيش العراقي الكويت في 2/8/1990 ياسر عرفات، وارتبكت القيادة الفلسطينية أيما ارتباك في تحديد موقع قاطع من هذا الأمر. وكان ياسر عرفات قد أعلن، منذ بداية الاجتياح، أن على العراق الخروج من الكويت، ويجب حل جميع المشاكل بين الدولتين في إطار جامعة الدول العربية. لكن إذا هاجمت الولايات المتحدة الأميركية العراق فهو سيقف إلى جانب العراق. وقد ضاع هذا الموقف في ضجيج الأصوات الداعية إلى إخراج العراق من الكويت بالقوة مثل مصر والسعودية. وقد دفع ياسر عرفات ثمناً غالياً جراء موقفه هذا، فقطعت الدول النفطية مساعداتها المالية عنه، وحاصرته سياسياً، وشنت عليه حملة تشويه سمعة ظل صداها يتردد حتى الانتفاضة الثانية في سنة 2000. وفي هذه الأجواء اغتال أحد عملاء جماعة صبري البنا (أبو نضال) كلاً من أبو إياد وأبو الهول وفخري العمري (أبو محمد) في تونس في 14/1/1991، فشكلت هذه الجريمة ضربة كبيرة لياسر عرفات ولحركة فتح، ولا سيما أنَّ الثلاثة هم من القادة التاريخيين للحركة، خصوصاً أبو إياد الذي اشتُهر بأنه الرجل الثاني فيها.
هُزم العراق في الحرب التي شنتها عليه قوات التحالف الدولي في 17/1/1991، وأُرغم على الانسحاب من الكويت في 28/2/1991. وكان واضحاً أن ياسر عرفات سيدفع ثمن مواقفه التي لم تكن متطابقة مع مواقف مصر والسعودية والعائلة الحاكمة في الكويت. وعندما بدأ التحضير لعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، لم تجد منظمة التحرير الفلسطينية مقعداً لها في هذا المؤتمر. وبذل ياسر عرفات جهداً حثيثاً لحجز مقعد له في عملية التسوية، وتمكن من عقد الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 23/9/1991 الذي جدد انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنح الثقة للنهج السياسي الذي انتهجه منذ إعلان الاستقلال في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1988.
وكان من غير الممكن أن يُعقد مؤتمر مدريد للبحث في السلام للشرق الأوسط من دون الفلسطينيين، وكان من المحال أن تدعي أي جهة أنها تمثل الشعب الفلسطيني عدا منظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا تمكن ياسر عرفات، بصفته التمثيلية، من القفز إلى قطار مدريد، ولكن في إطار وفد فلسطيني- أردني مشترك. وكان ذلك مجرد خطوة أولى، ثم تولى من تونس إدارة التفاوض مع الإسرائيليين.
عقد مؤتمر مدريد للسلام في 30/10/1991. وغاب ياسر عرفات عن جلسة الافتتاح، لكن ملائكته كانت حاضرة. وفيما انفضّ هذا المؤتمر الافتتاحي بدأت المفاوضات بين وفد المنظمة برئاسة حيدر عبد الشافي وعضوية كل من صائب عريقات وحنان عشراوي.
ومنذ البداية أعلن الوفد الفلسطيني، وهو مؤلف من فلسطينيي الأراضي المحتلة، أن مرجعيته هي منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب، ورئاسته معقودة لياسر عرفات القائد التاريخي للشعب الفلسطيني.

 الشوط الأخير
لم تتوصل المفاوضات بين الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي والوفد الإسرائيلي إلى أي نتيجة طوال أكثر من عام. وفي هذه الأثناء، وفي أيار 1992 بالتحديد، التقى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في إسرائيل تيري رود لارسن مدير معهد FAFO النرويجي المتخصص بشؤون الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتباحثا مطولاً في إمكان فتح قناة سرية للمفاوضات بعيدة عن أعين الأميركيين. وشارك يئير هيرشفيلد الأستاذ في جامعة حيفا الذي يؤمن بالحوار بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، في بهذه المباحثات التمهيدية. وهكذا راحت هذه القناة السرية تتطور، بالتدريج، حتى صارت واقعاً عملياً، وشهدت مفاوضات شاقة ين وفدين الأول برئاسة أحمد قريع (أبو علاء) ومعه حسن عصفور وماهر الكرد، والثاني برئاسة يئير هيرشفيلد ورون بونديك. وانتهت إلى صيغة اتفاق دُعي باسم "إعلان مبادئ". وقد عرف العالم في 26/8/1993 أن الفلسطينيين والإسرائيليين توصلوا، لأول مرة منذ 45 عاماً، إلى وثيقة كان الأمل أن تكون فاتحة للسلام في المنطقة. وسارت الأمور بسرعة نحو توقيع تلك الوثيقة باحتفال عالمي في حديقة البيت الأبيض في واشنطن شارك فيه الرئيس الأميركي بيل كلينتون وياسر عرفات ويتسحاق رابين وشمعون بيريز ومحمود عباس (أبو مازن).
في 12/9/1993 وصلت إلى قاعدة "أندروز" العسكرية طائرة الملك المغربي الحسن الثاني التي كانت تقل ياسر عرفات. وكان في استقباله أدوارد جيرجيان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. وأقام أبو عمار في فندق "آنا وستن" في واشنطن. وفي أحد مكاتب البيت الأبيض سأله موظف كبير في وزارة الخارجية: عندما أَلقيت خطبتك أمام الجمعية العامة للأمم  المتحدة في سنة 1974 قلت إنك جئت تحمل بندقية الثائر بيد، وغصن الزيتون بيد. ماذا تحمل اليوم في يديك؟ فأجابه أبو عمار:غصنيَ زيتون. فرد الموظف: ماذا حل بمسدسك إذن؟ فقال ياسر عرفات: إنه يفيدني الآن في حماية السلام.
قبيل بدء احتفال توقيع إعلان المبادئ بساعات اكتشف ياسر عرفات أن اسم منظمة التحرير الفلسطينية غير موجود في ديباجة الاتفاق، فاستدعي، على الفور، أحمد الطيبي، وقال له: لم أنم طيلة الليلة الماضية، فقد قرأت نص الاتفاق واكتشفت أن فيه نقطة لا يمكن القبول بها، وهي أن الاتفاق يشير إلى "الوفد الفلسطيني" لا إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
واتصل الطيبي بشمعون بيريز الذي بادر إلى استدعاء القانوني المعروف يوئيل سنغر، وهذا رفض إجراء أي تعديل على الاتفاق ولا سيما أن نصوص الاتفاق طبعت  بآلاف النسخ، وسيجري توزيعها على الصحافيين بعد انتهاء الاحتفال مباشرة. لكن ياسر عرفات قال للطيبي: قل لهم إنني سأرجع فوراً إلى تونس ما لم يتغير النص. وأمام إصراره أُعيدت طباعة صفحات جديدة تتضمن عبارة "وفد منظمة التحرير الفلسطينية"، واستُبدلت في آخر لحظة، وجرى توقيع الاتفاق في حديقة البيت الأبيض في 13/9/1993 وشهد العالم آنذاك المصافحة التاريخية بين يتسحاق رابين وياسر عرفات، وصار ما قبل ذلك التاريخ تاريخاً وما بعده تاريخاً آخر، وصار ياسر عرفات نفسه أحد كبار صانعي التاريخ العربي، خصوصاً تاريخ التحرر الوطني.