تعلمنا صغاراً قصة المرأة العربية الفقيرة، والتي كانت تُصَبِرُ أطفالها على الجوع بوضع قِدرٍ على النار تغلي فيه الماء وبداخله البحص، وتُمني أولادها أن في القدر غذاء، علهم يصبرون على جوعهم حتى يغالبهم النعاس وينامون دون عشاء، لم أكن أتوقع أن أستخرج من هذه القصة نظرية سياسية، يمارسها السياسيون في سياساتهم سواء الداخلية أو الخارجية، هذه النظرية (طبخة بحص) أرى تجلياتها في سياسة الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة الرئيس ترامب، القادم من عالم التجارة وقبلها العباطة والمصارعة، وينظر للحياة السياسية داخلية كانت أو خارجية نظرة ماركنتيلية تجارية بحتة ترتكز على عوامل القوة تارة وعلى الفتاكة أو الفذلكة أو العباطة تارة أخرى، وما يهمني في ذلك هو سياسته الخارجية بشأن الصراع في الشرق الأوسط، طبعاً ورث عن سلفه وإدارته السابقة إرثاً سياسياً كبيراً في شأن الشرق الأوسط الذي بات مصدر قلق للعالم ولشعوبه على السواء، فمنذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم بقي الصراع العربي الإسرائيلي (دون حلٍ) والذي فاقم أوضاع المنطقة وأحالها في دوامة من الحروب وعدم الاستقرار، ثم جرى توليد واصطناع ما بات يعرفُ بالإرهاب وكأنه منتج إسلامي شرق أوسطي، ليغطي الثاني على الأول ويتقدم عليه كخطر جاثم ومحدق دفعت شعوبنا العربية فيه ثمنا غالٍ وباهظ، يتعدى الأثمان والتكاليف التي أحدثها الصراع العربي الإسرائيلي مئات المرات، ونحن لا نختلف مع أحد على ضرورة مواجهة هذا الإرهاب الأسود والذي شوه ديننا الحنيف الإسلامي أولاً وأخيراً، وكان ضحاياه من العرب والمسلمين، وبالتالي فإن العرب والمسلمين هُم من يكتوون بناره، وهم أصحاب المصلحة الحقيقيين بمواجهته واجتثاثه، ولكن المعركة مع هذا الإرهاب الإسلامي الشرق أوسطي، لن تكتمل ولن تحسم دون إيجاد حل واقعي حقيقي للصراع العربي الإسرائيلي ولجوهره القضية الفلسطينية، مهما حاول دخان هذا الإرهاب أن يغطي عليها، وأن يضبط إيقاعاتها وإبقاءها تحت السيطرة، فإنه لن يفلح في إخفاء حقيقة الإرهاب المتمثل في هذا الاحتلال الغاشم القائم على طمس الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وإدامة الاحتلال الإسرائيلي لأراضيه، وإبقاء الفلسطيني إما لاجئاً مشرداً في دول الجوار أو في المنافي البعيدة، أو رازحاً تحت نير الاحتلال الإسرائيلي يهدد حياته ويعرضه للقتل التعسفي، أو لهدم منزله، أو تجريف أرضه أو مصادرتها، وقطع أشجاره، وتقطيع أوصاله وتواصله، واغتيال كافة أسباب رزقه وعيشه في وطنه، ورغم سلسلة القرارات الدولية التي تشجب وتدين وتستنكر هذه السياسات الاحتلالية في حق الشعب الفلسطيني، إلا أن هذا الإرهاب الاحتلال لم يجد المواجهة الحقيقية من المجتمع الدولي ومن الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم في عهد الرئيس ترامب الذي بشرَّ من بداية ولايته أنه عازم على عدم تضييع الوقت مثل الإدارات السابقة في هذا الشأن، وأنه سوف يعمل جاداً لإحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين والعرب، وبشرَّ بمصطلح (الصفقة) وأنها ستكون صفقة القرن أو العصر، والتي بموجبها سيعم السلام في الشرق الأوسط وينهي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني العربي، تلك العقلية التجارية التي تنظر لهذا الصراع مجرد نظرة تجارية تقوم على مبدأ الربح والخسارة، متجاهلاً حقيقة الصراع أنها تتعدى هذه النظرة الضيقة إلى آفاقها الحقيقية الإنسانية والاجتماعية والسياسية والدينية، وتكشف عن سطحية متناهية بل وتكشف عن (مخادعة تاريخية) لم يشهد لها التاريخ السياسي للصراعات مثيلاً قافزة على الحقائق والعناصر الموضوعية الحقيقية للصراع، وهذه الصفقة التي بشرَّ بها الرئيس ترامب ووعد بالإعلان عنها نهاية العام الجاري ثم أجل ذلك إلى بداية العام المقبل دون أن يفصح رسمياً عنها ولو بسطر واحد لغاية الآن، تاركاً المجال للتكهنات الإعلامية والسياسية ولبعض التسريبات الإسرائيلية الخبيثة والتي لا تخلو من أهداف خبيثة تزرع الشك في الأوساط العربية والفلسطينية على المستويات الرسمية والشعبية، كي تزيد الوضع الفلسطيني والعربي إرباكاً على إرباك، كي لا تقع الصدمة عند الكشف عن هذه الصفقة وعناصرها أنها لم تقترب من الحل الواقعي المأمول لا فلسطينياً ولا عربياً ولا دولياً، وتتبخر الأحلام والأماني التي رسمها البعض أو علقها البعض الآخر على ما يسمى بصفقة العصر والقرن، ويكون الرئيس ترامب وإدارته ومعهم الكيان الصهيوني قد كسبوا مزيداً من الوقت في تزييف الحقائق على الأرض وخلق الوقائع والعقبات على الأرض التي من شأنها أن تقتل كل أمل بالتوصل إلى حلٍ (أقول واقعي وليس عادلاً) على الأقل، ينهي هذا الصراع المزمن والذي يمثل الصورة الأوضح للإرهاب، والمصدر الأول له على مستوى الشرق الأوسط والعالم، وتكون النتيجة تماماً مثل نتيجة (طبخة البحص) التي تعدها المرأة الفقيرة لإسكات جوع أطفالها حتى ينامون دون عشاء، وهكذا يستمر الحال على ما هو عليه إنكار للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وغض النظر عن استمرار الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وعن إجراءاته التعسفية والإرهابية والعنصرية في حق الشعب الفلسطيني، والدلائل والشواهد على ذلك باتت واضحة وجلية ويتمثل بعضها في فريق عمله المكلف بإعداد (الصفقة) الذي يقف على يمين اليمين الحاكم في الكيان الصهيوني، وفي التجاهل بل الدعم لممارسات الاحتلال سواء من الاستيطان أو التنكيل بالشعب الفلسطيني وفرض الحصار وتقييد الحركة على الفلسطينيين من داخل فلسطين ومن فلسطين إلى الخارج، والتحكم المطلق في مختلف جوانب الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، وقد توجت الإدارة الأمريكية هذه الشواهد والدلائل مؤخراً بمحاولة غلق مكتب الاتصال والتمثيل الفلسطيني في واشنطن، كاشفة بذلك عن نواياها التي تبشر بها (الصفقة) .. كل ذلك يمثل للمراقب وللمتابع سُوءَ نوايا إدارة الرئيس ترامب تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه، يضاف إلى ذلك مشاريع القرارات والقوانين العقابية في حق الشعب الفلسطيني التي يدرسها الكونغرس الأمريكي وبصدد التصويت عليها وإصدارها .. والتي من شأنها أن تجعل من الولايات المتحدة الأمريكية ليس راعياً منحازاً وإنما طرفاً في الصراع إلى جانب الكيان الصهيوني في مواجهة الشعب الفلسطيني وبنص القانون الأمريكي، والذي يمثل في هذه الحالة صورة من صور الإرهاب التي ستمارسها الولايات المتحدة في حق الشعب الفلسطيني، مستغلة في ذلك حالة الانهيار في الوضع العربي المثخن الجراح تحت وطأة الإرهاب من جهة وتحت وطأة التهديدات والتدخلات الخارجية الإقليمية والدولية في شؤونه الداخلية، ما يفقد الموقف الفلسطيني شبكة الدعم والأمان العربية التي يجب أن تحيط الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعمل على توفير كامل أسباب الصمود له في وطنه وتدعم تمسكه بحقوقه المشروعة، ولكن الشعب الفلسطيني المسلح أولاً بإيمانه بعدالة قضيته ومشروعيتها الطبيعية والوضعية، وبإرادته الصلبة والمجربة على مدى قرن من الزمن .. لن يكون أول من يصرخ في لعبة عض الأصابع كما لن يرفع الراية البيضاء ليعلن استسلامه للكيان الصهيوني، فالمواجهة والمقاومة الفلسطينية لهذا الكيان سوف تستمر متخذة أشكالها المناسبة والملائمة والتي تسجل النقاط يومياً في مرمى الاحتلال إلى أن تتحقق أهدافه الوطنية المشروعة والمعروفة للقاصي والداني، والتي لن يحيد عنها وسيجد كل الدعم والتأييد من أشقاءه العرب والمسلمين ومن جميع قوى التحرر والتقدم والديمقراطية الحقيقية في العالم، ولن ينخدع ((بطبخة البحص الترامبية)) ولن يركن ويستسلم لها، وإنما سيواجهها بالرد وبالموقف المناسب في وقتها، حتى تنضج الظروف الموضوعية لتحقيق الأهداف الوطنية القاضية بإنهاء الاحتلال وتحقيق العودة وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وكل صفقة وشعبنا وأمتنا بألف خير.