أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى المئوية لوعد بلفور، والذي يحمل اسم وزير خارجية بريطانيا اللورد جيمس بلفور والذي أصدر وعداً باسم صاحبة الجلالة الملكية البريطانية وبصفته وزيراً للخارجية البريطانية وليست بصفته الشخصية يمنح بموجبه اليهود وطناً قويماً لهم في فلسطين. بداية الوعد يعبر عن إرادة بريطانيا، ومن ثم ليس وعداً شخصياً وهذا معناه ارتباط الوعد بالسياسة البريطانية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، صحيح أن الوعد صدر عام 1917 لكن لا يمكن فهم دوافعه إلا بوضعه في سياقه التاريخي والسياسي الذي صدر فيه. فالمسالة لا تتعلق باليهود وهل لهم حق تاريخي في فلسطين، ولا تتعلق بدوافع إنسانية، وإنما الوعد يرتبط بالدوافع والمصالح العليا التي حكمت السياسة البريطانية. والأمر الآخر أن الوعد لم يقتصر على كونه بريطانياً فقط بل اخذ بعداً أوروبياً وأمريكياً أوسع وأشمل. وقراءة الوعد لا ينبغي أن تقتصر على مجرد تحليله، والوقوف على دوافعه، وإن كانت أمراً مطلوباً، ولكن بقراءته بعد مائة عام، أي بالسياق السياسي الحاضر. وهل حقق الوعد أهدافه؟ وهل ما زالت هناك مراحل أخرى ؟ الظروف التاريخية التي صدر في سياقها الوعد قد لا تختلف كثيراً عن الظروف والمحددات السياسية التي تحكم علاقة المنطقة العربية بالقوى الدولية والإقليمية الخارجية اليوم. ويبدو لي أن الهدف الأوسع والبعيد المدى للوعد ليس فلسطين فقط، بل المنطقة العربية كلها، والهدف الاستراتيجي تفكيك المنطقة العربية وإعادة تقسيمها. المرحلة الأولى هي مرحلة صدور الوعد في العام المذكور والذي تزامن مع اتفاقات سايكس بيكو ومؤتمر سان ريمو. والهدف تقسيم المنطقة على أساس الدولة الوطنية القطرية، والتي نشئت كثير من الدول العربية استناداً لهذه الاتفاقات. وتقسيم المنطقة ووضعها تحت سياسات الدول الانتدابية بريطانيا وفرنسا وهما القوتان النافذتان وقتها، واليوم نتحدث عن دور أمريكي وروسي مثلاً. وتزامن صدور الوعد أيضاً مع مرحلة التوسع الاستعماري وبروز الحركة الصهيونية، وظهور ما عرف تاريخياً بالمسألة اليهودية في أوروبا، وبروز تيارات فكرية تتراوح بين اندماج اليهود في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها أي حل المسالة اليهودية أوروبياً، وبين التيارات التي تطالب العودة لفلسطين. وهنا تلاقت الصهيونية المسيحية التي تؤمن أن عودة المسيح مرتبطة بقيام وطناً قومياً لليهود. بهذا التفسير ارتبط صدور الوعد بتحقيق المصالح الاستعمارية، وكآلية إستراتيجية للحيلولة دون وحدة المنظومة العربية، والتهيئة لتقسيم المنطقة وتفكيكها في مرحلة لاحقه. ومن العبر التي يمكن أن تقرأ من الوعد في مئوية وضع فلسطين تحت سلطة الانتداب البريطاني لتقوم بريطانيا بوضع البرامج التنفيذية لترجمة الوعد على أرض الواقع علماً أن اليهود لم يكونوا يمثلوا إلا أقلية صغيرة، ولم يملكوا أي من الأرض عند صدور الوعد. وهذا هما العنصران اللذان اعتمدت عليهما سياسة بريطانيا والحركة الصهيونية لجعل الوعد حقيقة سياسية تحتاج أولاً :عنصر السكان وهنا قامت بريطانيا بتبني سياسات الباب المفتوح والسماح بهجرة اليهود إلى فلسطين، وثانياً عنصر الأرض بتسهيل امتلاك الأراضي وبيعها ونضيف لهذين العنصرين العنصر الدولي بمعنى الحصول على الشرعية الدولية لوعد بلفور وتبنيه من خلال الأمم المتحدة، في صورة استصدار القرار رقم 181 الذي أجاز قيام دولتان عربية على مساحة تقارب الأربعة والأربعين في المائة من مساحة فلسطين، والدولة اليهودية على مساحة تقارب الأربعة والخمسين، والقدس تحت الإشراف الدولي، ومما يلفت الانتباه في هذا القرار أن نسبة الدولة اليهودية اكبر من الدولة العربية على الرغم من غلبة العنصر العربي الفلسطيني. ومن العبر المهمة في قراءة الوعد بعد مائة عام نجاح الحركة الصهيونية إلى جانب العناصر الثلاث السابقة في بناء المؤسسات السياسية، والتعليمية كالجامعة العبرية في القدس، وتأسيس المليشيات العسكرية، وهذه المؤسسات هي التي شكلت النواة لقيام إسرائيل كدولة. والتي من بين أهم أهدافها الحيلولة دون قيام منظومة عربية متكاملة متصلة جغرافيا، والتمهيد للدخول في المرحلة الثالثة لتاريخ التطور السياسي للمنطقة وهى التي نشهد بعض إرهاصاتها اليوم، باكتمال الأهداف الإستراتيجية البعيدة المدى لوعد بلفور وهى مرحلة إعادة رسم الخريطة السياسية للمنطقة على أسس جديدة إثنية وعرقية، وطائفية، والعمل على تفكيك الدول العربية الكبرى إلى دويلات وكينونات سياسية صغيرة يسهل ابتلاعها واحتوائها. وإعادة بناء بنية القوة فيها على أساس أن تكون إسرائيل هي الدولة المحورية القيادية. في سياق هذه القراءة التاريخية السياسية تبدو أهمية وحتمية قيام الدولة الفلسطينية، والتي ستغير من شكل الصراع وتحول دون تنفيذ المرحلة الثالثة من تفكيك وتقسيم المنطقة العربية. وأخيراً الوعد تجسيد وترجمة لمفهوم القوة الذي يحكم العلاقات الدولية في كل مراحلها.