في سابقةٍ نادرةٍ جاء التسريب المتعمَّد لبعض ما يحتويه خطاب الرئيس في الأمم المتحدة قبل إلقاء الخطاب بساعات عديدة كمحاولة للتقليل من وقع هذا الخطاب على المستهدفين منه، وتقليص الموجات الارتدادية التي ستنجم عن خطاب يحمل ُكلَّ تلك المنعطفات، فما بعد الخطاب لن يكون أبداً مثل الذي كان قبله..

  لم يُفلِح التسريب في تحقيق أهدافه، وذلك لأسباب كثيرة منها ما هو معروف عن الرئيس أبو مازن بإتقان فن الخروج عن النص لمراكمة المفعول "الدرامي" لما يريد قوله، ومنها ما يرتبط بطبيعة الرئيس وشخصيته المليئة بالرسائل التي يُتقِن كلُّ الذين يعرفونه قراءتها جيداً، فمثلاً يستطيع الرئيس أن يصل بمطالبه إلى حدِّ التهديد بزلزال كبير، وفي نفس الوقت يبقى محافظاً على نبرة صوته الهادئة والواثقة والساخرة أحياناً، ويُبقي الابتسامة على وجهه وكأنه يقول: "الشاطر يفهم..".

  لقد احتوى الخطاب رسائل عديدة، لم يُوفّر أحداً من التعرض لنيرانها، بدءاً بالمجتمع الدولي المتقاعس والشيطان الأخرس-الساكت عن قول الحق طوال عشرات السنين- مروراً ببريطانيا العظمى أساس الداء والمسؤولة عن كلِّ ما لحق بشعبنا من ويلات، حتى تعرية أدق تفاصيل موقف عدونا المحتل الممعن في لعبة التحايل على التاريخ والجغرافيا والإنسان، من دون أن يدرك ساسة "إسرائيل" أنَّ في الجعبة الفلسطينية ما يكفي من "إكسير الحياة" القادر على قلب الطاولة في كلِّ مرة يظن فيها أعداؤنا أنه لم يبقَ أمامنا سوى التوقيع على صكوك التخلي عن ملامح وجوهنا وتفاصيل حلمنا..

  رسالة أخرى حملها الخطاب لشعبنا: لا مكان لليأس أو الإحباط، رغم ما يمتلكه أعداؤنا من قوة الوهم بالتفوق، ورغم العمى الذي يغشى أعين العالم، فنحن ما زلنا صامدين في وطننا، وإذا استمر عدونا في تجاهل مطالبنا، فعلى العالم المنافق أن يدرك أنَّ كلَّ طفل فلسطيني يستطيع أن يغمض عينيه، ويرسم خارطة فلسطين التاريخية بجرّة قلم، وفي المقابل لا أعتقد أن أحداً منا يستطيع أن يرسم خارطة "الضفة وغزة" بدون شبابيك الحلم المطلة من حيفا ويافا على حدود الأفق الرحب وعلى حدود التغريبة الفلسطينية.

  الدولة الفلسطينية المستقلة هي هدفنا الذي طلب رئيسنا من العالم الإسراع في تنفيذه، ومن يتقاعس عن ذلك عليه أن لا يلوم إلا "إسرائيل" وأمريكا ونفسه، فلن يكون البديلُ عن الدولة الفلسطينية إلا إعادة النظر في الأُسس التي قامت عليها "إسرائيل"!

  نقطة أخيرة: على "حماس" أن تُعيدَ النّظر في كل استراتيجيتها المعيقة لوحدة الموقف الفلسطيني، فقد أثبت تفاعل الجماهير الفلسطينية مع خطاب الرئيس أنَّ شعبنا لن يقبل بعد اليوم الاستمرار في ممارسة لعبة العبث بمسلّمات مشروعنا الوطني..

  وماذا عن "فتح"؟

  على "فتح" الاستعداد لتكون كعادتها حارسة المسيرة والممسكة بالبوصلة والأمينة على وصايا الشهداء..

د.خليل نزّال