مواضيع تدخل في صلب اختصاصه البحثي، ومن حيث المبدأ أيضا فمن المنطقي أن يتحرى مركز الأبحاث أو الدراسات عامة العلمية والموضوعية والدقة حيث يعرض لأوراق أو أبحاث لها انعكاسات محددة سواء ايجابية أو سلبية، فيتخير المكان والزمان والمتحدثين والحضور والمواضيع بما يخدم معنى البحث والدراسات، وبما يخدم الهدف والعملية والموضوعية.

وفي نفس الإطار يأتي تعامل أي مؤسسة أو مركز دراسات مع قضية سياسية متوترة أو يثار حولها الكثير من الغبار يحتاج لكثير من التحري والتيقن قبل الإقدام والتمكن لتحقيق الغرض على فرضية إحساننا للظن بالهدف.

عندما حصل الانشقاق الكبير ضد حركة فتح المدعوم من النظام السوري عام 1983 تدخلت العديد من الشخصيات والأنظمة في الموضوع حتى استنفذت ما لديها بانكشاف النخر في العظام، ولكن العبث العربي لم يتوقف وانعكس على منظمة التحرير الفلسطينية فيما أصبح يسمى لاحقا المعارضة التي عرفت نفسها مناهضة (للقيادة المتنفذة في م.ت.ف) في مقابل حركة فتح، واستنفذت عديد الدول محاولاتها للتخريب مع كيل غير منقطع للشتائم والاتهامات التي كان التخوين أحد أهم محاورها.

في الاتجاه المقابل قامت عدد من الدول الشقيقة التي بمهمة بالتقريب والتوفيق، وفق ما أصبح لاحقا يسمى مباحثات (عدن/الجزائر) ولكنه في كل الأحوال كانت حركة فتح صاحبة الشأن ممثلة بإطارها القيادي الأول أي باللجنة المركزية للحركة، وبرأس الهرم الحركي بقيادة الخالد ياسر عرفات، أي ان كل محاولات (التخريب) التي قامت بها عديد الدول فشلت فشلا ذريعا بالطرق الالتفافية سواء السياسية أو العسكرية أو المالية أو بمحاولة تجاوز الأطر القيادية لحركة فتح أو المنظمة، وعليه لم ولن تنجح محاولات استنساخ حركة فتح أوالمنظمة، لا من النظام السوري ولا الليبي ولا من المنشقين، ولا من فصيل "حماس" لاحقا أو غيرها.

أن يتم نقاش مستقبل حركة فتح –بشكل أو بآخر-بعيدا عن إطارها الأول أي اللجنة المركزية من قبل دولة أو مركز دراسات أو فصيل آخر وبشكل علني في الحقيقة لا يمثل عملية اصلاحية أوعملية تصويب أو مدخل نقدي تطويري بقدر ما يمثل – في ظل غياب أصحاب الشأن – مآرب وأهداف تصب في مصلحة تيار أو جماعة أو فئة تستقوي على الحركة من خارجها، ويتجاوب معها مجموعة من الارتباطات والتقاطعات التي قد تكرّس الخروج عن الموضوعية والعلمية والدقة، بمعنى واضح فإنها بذلك تخرب ولا تقرب وتشق ولا ترتق أبدا.

ولأطرق صلب الموضوع فإن (المركز القومي لدراسات الشرق الاوسط) وهو مركز مرموق له أن يعقد ما يشاء من ندوات أو مؤتمرات في (العين السخنة) أو غيرها، ولكننا في حركة فتح لا نرى تحت أي ذريعة أن يصبح جسد الحركة تحت مبضع الجراحين غير المهرة خاصة وأهل القضية غائبين أو مغيبيين، كما لا نقبل أن يُحسب مثل هذا المؤتمر على فلسطين أو على حركة فتح ونحن في قيادة الحركة غير موجودين مشاركين أو منظّمين لهذا المؤتمر، ليس انتقاصا من دور مراكز الأبحاث أن تعقد ندواتها البحثية الصرفة كما تراها مناسبة، وإنما تكريسا لحقيقة أن الوصول للهدف يفترض وجود الأصل، هذا وفي ظل تداعيات حركية فتحوية داخلية وتدخلات اقليمية وعالمية ترفضها حركة فتح قطعيا.

وفي هذا الصدد أحيى د. حازم أبو شنب ود. سمير غطاس وهما أول من نبّها بوضوح لخطورة الاستغلال الذي قد يقع في هذا المؤتمر أو غيره،أو على نمط ما سبقه فيما شرحنا عنه، ودعوا لتجاوزه.

إضافة لما سبق وبما أن المؤتمر (عربي) أي أن المركز الذي استضافه مركز عربي ومحترم، فكان الأولى بالمركز -كما أعتقد- عندما يطرق موضوع فلسطيني شائك، وهو يعلم مدى تعقيده أن يكون دقيقا في اتجاهات عدة أولاها في إشراك المنظمين، وثانيها في تنوع الحضور وتخير التوقيت بما لا يثير الجدل الكبير، وثالثها في تخير طرح المواضيع (ذات الطابع السياسي الفلسطيني الداخلي) وليس البحثي خاصة في تلك التي تعرضت لحركة فتح وحركة "حماس" تخصيصا.

لنا أن نتساءل، ألم يكن من الأجدر للأخوة الكرام في المركز العربي الذي يعقد مؤتمرا نفترض أن أهدافه توفيقية اصلاحية هامة أن يقوموا بدعوة قيادة حركة فتح المركزية بعد أن يتم التنسيق بالتنظيم والإعداد معها ؟ وألم يكن من المفيد أيضا أن تتم دعوة حركة "حماس" لا سيما وأن المؤتمر/ الندوة قد تطرق بقوة لموضوع الانقلاب والانشقاق الفلسطيني والوحدة الوطنية؟

ألا يجوز لنا بهذه الحالة أن نشبّه ما حصل فيما كان يقوم به معمر القذافي حينما قام برعاية ما يسمى (التحالف الديمقراطي) من المعارضة الفلسطينية، أو بقايا (جبهة الصمود والتصدي) أو التشكيلات الأخرى، في طرابلس ضد قيادة (م.ت.ف) ؟

وألا يجوز لنا هنا أن نقارن ونتفكر ونتأمل بما فعله المركز العربي مع ما فعله مرارا وتكرارا النظام السوري (ولاحقا دولة قطر) بعقد الندوات والمؤتمرات المناهضة للمنظمة ولحركة فتح ؟ حتى العام 2011 قبل الثورة السورية، وكذلك الأمر مع ما كان يفعله النظام العراقي تماما حين اختلافه مع قيادة المنظمة ؟

الفرق الوحيد هنا أن الأمر بدلا من أن يرتبط بدولة ما، أصبح مرتبطا بمؤسسة أوبمركز الدراسات أو الابحاث، وفي كلا الأمرين تشجيع –نرجو ألا يكون مقصودا-على زيادة الشرخ في الجسد الفلسطيني بكل وضوح.

المجلس الوطني في العام 1984 وحين اتضح التدخل الفاضح للنظام السوري في جسد حركة فتح عقد مؤتمره في مدينة عمان، ليقرر أن الوحدة الوطنية هي وحدة الشعب أولا، وليقرر أن استخدام العنف والسلاح مرفوض، وليقرر (إدانة كافة المحاولات التخريبية الهادفة الى شق منظمة التحرير الفلسطينية، وتمزيق صفوفها أو اصطناع قيادات بديلة عنها، وتأكيد التمسك بوحدة المنظمة وشرعية مؤسساتها .. )، ويدعم المجلس (اتفاق عدن الجزائر) و(يثمن الروح التي حكمته، ويعتبره أساسا لمواصلة الحوار بين كافة القوى)، ولكن ضمن (الالتزام بالقرار الوطني المستقل وبالميثاق وبمؤسسات المنظمة وبالحوار الديمقراطي مع ادانة استخدام السلاح كوسيلة بديلة للحوار الديمقراطي).

ما أدعانا اليوم أن نتفكر جديا بمثل هذه القرارات الشمولية الجامعة، خاصة ونحن نسير كقضية فلسطينية عامة في مقابل التغول الاستعماري والصهيوني بحقل ألغام، أو كما نحن نسير مع حركة "حماس" على حد السيف، ولم يكفينا ذلك لتصبح أصابع التوتير ذات امتدادات لمنظمات أو مؤسسات عربية مسيسة؟

وفي جميع الأحوال لا نقبل قرار لأي مؤتمر لا نكون فيه كحركة فتح أو كفصائل مجتمعة أو كمنظمة استلهاما لمقولات الرئيس الخالد ياسر عرفات الذي لم يألُ جهدا في الدفاع عن ذلك، وامتدادا لقول أحمد الشقيري ذاته الذي قال: (لا للانفراد بأي حل لقضية فلسطين دون الرجوع إلى قمة عربية بوجود منظمة التحرير الفلسطينية.)

في الختام فلقد صادق المجلس الوطني الفلسطيني في الدورة 17 على التالي: (يؤكد المجلس الوطني على استمرار التمسك بالقرار الوطني المستقل وصيانته، ومقاومة الضغوط التي تستهدف النيل من هذه الاستقلالية من أية جهة أتت. والمجلس ينطلق في مفهومه للقرار الوطني الفلسطيني المستقل من أرضية الالتزام القومي) .

إن حركة فتح ليست في حالة تراجع و تدهور أو ضمور كما يتوهم المتوهمون، وحركة فتح الديمقراطية التعددية الرأي في أطرها تغيظ الحاسدين وتغري المتشبهين أن يكونوها أويرثوها، وسيخيب ما يسعون.

إن حركة فتح التي يتباكى عليها هؤلاء المتوهمون والحاسدون والمتشبهون والمخرّصون لن نمدهم بالمحارم الورقية ليمسحوا دموعهم، ولكنها ستعرض أمام من ينظر أو يتفكر أو يتأمل كل وثائقها الفكرية والسياسية والوطنية في مؤتمرها العام القادم الذى سيكرس بإذن الله تعالى معنى القدرة الفذة لأبناء الحركة على التجدد والاغتسال بالماء النظيف.

إن حركة فتح التي ترفض الشتائم والبذاءة والاتهامات، تقبل النقد والمراجعة، بل إن لديها فائض من الحرية والقبول للآخر، كما تقبل التجدد والتطوير وأفكار الاستنهاض والمبادرات من أي جهة أتت، وعليه هي ترحب بكل مبادرات الأحزاب والمؤسسات والدول والمراكز البحثية، ولكن بالدخول من الباب وليس من الشباك أبدا.

بغض النظر عن نتائح مؤتمر المركز القومي في "العين السخنة" التي أكدت على احترام الشرعية والمنظمة ما نقدره ونجله ونحيي فيه إدارة المركز كثيرا، فأن الأولى يسبق دائما التالي فلا يدع مجالا للحيرة أو التشكك أو الاتهام.

إن الاشخاص زائلون مهما علوا أو كبروا أو تجبّروا، وتبقى الفكرة الصائبة، وتبقى حركة فتح.

أن الأشخاص لا يخلدون، وتخلدهم الأفكار العظيمة والمواقف، وهم إلى تراب وتبقى فلسطين ترابنا وتبرنا، وتبقى حركة فتح.

لن نقبل القفز أو التجاوز أو التلاعب بالأطر الحركية – مهما اختلفنا مع كثير أو قليل ممن فيها كمواقف او سياسات– فهي فقط الضمان للديمقراطية الحركية الحقة والممارسة التنظيمية الملتزمة.

إن الاشخاص لا يدومون فلا ندافع في التنظيم الداخلي الا عن الفكرة والبرنامج والقرار الأصولي والإطار، وعن قيم وأخلاق حركة فتح التي نسجت رداء التحرير بلون العلم وجعلت فلسطين، وفلسطين العربية فقط مبرر القسم الحركي لكل أبناء الأمة وليس الفلسطينيين فقط.