بقلم: لميس الأسطل
في ظل خيمة مهترئة ترتجف بجوار كومة نفايات تنبعث منها رائحة الموت والمرض، تقف المواطنة الأربعينية معزوزة السلطان حاملةً همَّ عائلتها وحدها؛ فزوجها مريض قلب لا يملك سوى نظرات يملؤها الألم، وأطفالها الستة صغار تحاول طمأنتهم بابتسامات شاحبة.
وبين الروائح الكريهة والذباب الذي يزحف على أجسادهم، لا مجال للاحتفال بالحياة، بل تُهان الكرامة في أبشع صورها، لتعيش وسط كابوس لا ينتهي من الأمراض والفقر والخذلان، في واقع أجبرها على النزوح من شمال قطاع غزة إلى جنوبه قسرًا لا اختيارًا، تحت نيران الاحتلال وتهديداته وضرباته المميتة. فلم تجد سوى هذه البقعة مأوى لها بعد أن ضاقت الأرض بما رحبت؛ لتتسلل رائحة العفن إلى أنفاسهم وتخنق صدورهم رويدًا رويدًا.
بدموع انهمرت على وجنتيها، تقول السلطان من محافظة بيت لاهيا شمالي قطاع غزة: "على مدار عامين لم نغادر الشمال رغم شدة القصف الإسرائيلي وهوله، فكنا نتنقل بين المناطق من معسكر جباليا إلى حي الدرج وتل الهوى وغيرها، حتى وصلنا أخيرًا إلى منطقة العمادي غربي مدينة غزة. وفي النهاية خرجنا مجبرين تحت تهديدات جيش الاحتلال بضرورة الإخلاء، مع اشتداد القصف والنيران العنيفة وبدء العملية العسكرية على المدينة ضمن ما يُعرف بعملية (مركبات جدعون 2). فنزحنا نحو الجنوب دون أن نأخذ شيئًا، وبلا وجهة محددة".
وتتابع: "عندما نجونا بأرواحنا ووصلنا إلى جنوب قطاع غزة، تفاجأت بعدم وجود مكان متاح لنصب خيمتنا، وإن وجد فهو بالإيجار وبأسعار مرتفعة جدًا. وضعي المادي لا يسمح بمثل هذه التكلفة، فكل ما ادخرته من مال أنفقته أجرة للمواصلات أثناء النزوح، ولم يتبقَّ لنا شيء. لم أجد سوى هذه المنطقة بجوار مكب النفايات قرب مدينة حمد شمالي محافظة خان يونس لنصب خيمتي المهترئة إلى جوارها".
وتضيف السلطان: "جلسنا في هذه المنطقة الملوثة ونحن غير قادرين على التعايش معها بسبب الرائحة الكريهة وكثرة الذباب والحشرات. أصبنا منذ اليوم الأول بالأمراض وارتفاع درجات الحرارة وضيق التنفس، وكان الأمر صعبًا جدًا، خصوصًا على زوجي البالغ من العمر 73 عامًا، والذي لا تعمل عضلة قلبه إلا بنسبة 30%. أما أطفالي الصغار، فأكبرهم في الثامنة من عمره وأصغرهم في الثالثة، وقد حاولت إيجاد نقطة طبية قريبة لتلقي العلاج اللازم، لكنني لم أجد سوى مركز يبعد عدة كيلومترات، وصلت إليه بعد ساعة ونصف من المشي لعدم توفر المواصلات، ومع ذلك لم يكن الدواء متوفرًا".
وتستكمل بتنهيدة خرجت من أعماق قلبها: "يشعر صغاري بخوف شديد من الكلاب الضالة التي تهاجمنا ليلًا ونحن نيام، فيستيقظون برعب وبكاء متواصل، فأحتضنهم بدفء وحنان محاولةً طمأنتهم قدر المستطاع، لكن دون جدوى، ليبقوا على حالهم حتى شروق شمس اليوم التالي".
وتروي: "أعمل في خبز الخبز للأهالي في المناطق المجاورة عبر فرن الطين، مقابل أجر يومي لا يتعدى 20 شيقلاً. أحاول من خلال هذا المبلغ البسيط سد جوع أطفالي وزوجي، لكنه لا يكفي. كما أحاول تدبير المياه لعائلتي دون جدوى، فحتى مياه الاستخدام اليومي ومياه الشرب غير متوفرة في المنطقة. يذهب صغاري يوميًا لجلب المياه من مسافات بعيدة مشيًا على الأقدام، وفي كثير من الأحيان يعودون بخفيّ حنين، فأضطر لغسل الأواني بالرمال رغم تلوثها وعدم نظافتها، وأمضي فترات طويلة أنا وعائلتي دون استحمام".
وتتابع السلطان: "أرهقني التفكير المستمر بما سيؤول إليه مصير عائلتي، وأنا أشعر بالوحدة والعزلة والوصمة الاجتماعية، متمنية الموت على المذلة، أبكي كل ليلة، خصوصًا مع ادعاء جيش الاحتلال بوجود أماكن عديدة وتوسيع ما يسمى (المنطقة الإنسانية) وتوافر الخدمات الصحية والغذائية فيها. ومع اقتراب فصل الشتاء وأمطاره، سيزداد وضعنا سوءًا وسيتضاعف الألم"، متمنية وقف الحرب على قطاع غزة والعودة إلى ركام بيتها لتعيش فوقه بكرامة وعزة وإباء.
وتختم رسالتها بحرقة: "لا بد من العمل على نقلنا إلى منطقة صحية تتوافر فيها أدنى مقومات العيش الكريم، أو العمل على تنظيف هذه البقعة وتدوير النفايات فيها وتغطيتها بالرمال الصحية. فالمعاناة لا تقتصر على عائلتي فقط، بل تمتد لتشمل أكثر من 130 عائلة أخرى تعاني المصير ذاته".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها