بقلم: إسراء غوراني

ثمانية عقود من الزمن هي ما مضى من عمر الحاج رافع فقها (أبو مهيوب) من خربة الحمة في الأغوار الشمالية، ولد فيها حيث ولد آباؤه وأجداده من قبله، وعايش فيها عذابات ممتدة منذ احتلال الأغوار عام 1967 وبداية نواة التوسع الاستعماري فيها، وصولًا إلى ما يصفه اليوم بأنه المرحلة الأخطر على المنطقة وأهلها.

يستذكر أبو مهيوب سنوات عمره الأولى في الأغوار، حيث ولد في خربة الحمة قبل احتلال الأغوار بعقدين من الزمن، ويصف تلك السنوات بأنها كانت آخر سنوات الرخاء والخير التي شهدتها المنطقة قبل دخولها، منذ ستة عقود، في دوامة من المطامع الاستعمارية التي قطعت أوصالها وحولت حياة سكانها إلى جحيم يزداد لهيبه عامًا بعد آخر.

يقول أبو مهيوب، الذي يقيم في الخربة امتدادًا لآبائه وأجداده الذين سكنوها زمناً طويلاً، إن العامين الأخيرين شهدا تصاعدًا خطيرًا في اعتداءات المستعمرين على الخربة وسكانها، كما هو الحال في العديد من التجمعات المجاورة، وما خربة الحمة إلا واحدة من تجمعات كثيرة في الأغوار باتت ترزح تحت وطأة أخطر مشروع تهجيري يقوده المستعمرون بدعم كامل من سلطات الاحتلال.

ويشير إلى أن اقتحامات المستعمرين للخربة أخذت تتصاعد على مدار العامين الماضيين، وصولاً إلى اعتداءات يومية وعلى مدار الساعة منذ حوالي شهرين.

ويقول: "إنه أسلوب بتنا نعرفه جيدًا، ينتهجه المستعمرون مؤخرًا: اعتداءات يومية ليلاً ونهارًا، يستخدمون فيها كافة وسائل التهديد والترهيب ضد التجمعات المستهدفة لإجبارها على الرحيل، وقد حدث ذلك مرارًا مع العديد من التجمعات التي تم تهجيرها خلال الأشهر الأخيرة".

لا يكاد يخلو يوم على مدار الشهرين الماضيين من اقتحامات المستعمرين للخربة، يتخللها في أغلب الأحيان مهاجمة المواطنين داخل خيامهم وترهيبهم وتهديدهم بالسلاح ومطالبتهم بالرحيل.

ومن هذه الاعتداءات كان لأبو مهيوب نصيب مرير، ومن أصعبها ما تعرض له أواخر الشهر الماضي خلال مهاجمة المستعمرين للخربة واقتحامهم مساكن المواطنين، نتيجة لذلك أصيب بكدمات ورضوض شديدة.

يروي أبو مهيوب بمرارة تفاصيل الاعتداء في ذلك اليوم عندما اقتحم مستعمرون الخربة وهم يستقلون مركباتهم، هاجموا مساكن المواطنين وشرعوا بالاعتداء عليهم وضرب النساء والأطفال ورشهم بغاز الفلفل، مضيفًا: "خرجنا لمواجهتهم ومنعهم عن مساكننا وعائلاتنا، في ذلك اليوم تعرضنا لخطر شديد نجونا منه بفضل الله".

بعد ذلك الاعتداء، غادر المستعمرون وعادوا بعد برهة من الوقت برفقة قوة من شرطة الاحتلال، والتي بدورها هددت المواطنين بعدم التصدي للمستعمرين. يقول أبو مهيوب: "ذنبهم مغفور دائمًا، ونحن نتلقى التهديدات بالسجن في حال تصدينا لأي اعتداء".

في جلسة واحدة، يبوح أبو مهيوب بكم كبير من القهر الممتد منذ عقود من انتهاكات الاحتلال والمستعمرين الرامية لترحيلهم وجعل تجمعاتهم امتدادًا للمستعمرات التي تنتشر في الأغوار كالخلايا السرطانية، حاملة معها معاناة متواصلة لا نهاية لها. فبينما تتمدد المستعمرات وتزدهر ملتهمة معها مساحات لا حصر لها من الأراضي، تضيق فسحة العيش على المواطنين شيئًا فشيئًا حتى غدوا لا يجدون سبيلاً لرعي مواشيهم وزراعة محاصيلهم.

وفقًا لمعطيات وردت في تقارير سابقة لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم): "تمنع إسرائيل الفلسطينيين من استخدام نحو 85% من مساحة الأغوار وشمال البحر الميت، وتستغل هذه المساحة لاحتياجاتها هي. إنّها تمنعهم من المكوث في تلك الأراضي والبناء فيها ورعي أغنامهم وفلاحة أراضيهم الزراعية".

يقيم أبو مهيوب وأبناؤه السبعة برفقة عائلاتهم في بيتين متواضعين من الطين والحجر يزيد عمرهما عن عمر أقدم مستعمرة في المنطقة، وإلى جوارهما عدد من الخيام وبيوت الصفيح التي أنشأتها العائلة بعد امتدادها وتوسعها. خيام مهلهلة هي كل ما يستطيع أن يسكنه الفلسطيني في الأغوار، ويمنع من إقامة أي مبنى اسمنتي، في الوقت ذاته تُبنى على مرأى بصره مستعمرات ممتدة على آلاف الدونمات المسلوبة من أصحابها.

كان أبو مهيوب قد بنى منزلاً اسمنتياً قبل أكثر من أربعين عامًا، لكن سلطات الاحتلال هدمته إبان الانتفاضة الأولى أواخر ثمانينيات القرن الماضي ومنعته من إقامة أي مبنى جديد.

تسكن خربة الحمة اليوم حوالي 20 عائلة تعتاش من تربية الثروة الحيوانية، هذه الثروة التي باتت تواجه منذ سنوات خطر الاندثار في كافة تجمعات ومضارب الأغوار، فهي اليوم مستهدفة بالاستعمار الرعوي الذي يأخذ على عاتقه تهجير التجمعات السكانية والرعوية.

معاناة الرعاة في خربة الحمة ازدادت بشكل يصعب وصفه، وفقًا للمواطنين، مع إقامة بؤرة استعمارية رعوية عام 2016 في منطقة خلة حمد القريبة، وهذه البؤرة تبعد عن التجمع مسافة تقل عن كيلومتر، وتشكل مستعمراتها خطراً على التجمعات المحيطة كافة. كما تفاقمت معاناة أهالي الحمة بشكل متسارع مع إقامة بؤرة رعوية جديدة خلال النصف الثاني من العام الجاري على أطراف قرية كردلة وعلى مسافة تبعد حوالي كيلومترين عن التجمع، ومنذ ذلك الحين أصبح للمعاناة شكلاً أشد خطورة وشراسة.

هاتان البؤرتان، كغيرهما من البؤر الرعوية التي باتت تنتشر بكثرة في مناطق الأغوار والسفوح الشرقية للضفة الغربية، تعد نقاط انطلاق لاعتداءات المستعمرين على الرعاة وملاحقتهم في المراعي ومنعهم من دخولها، بالإضافة إلى سيطرتها على ما تبقى من مصادر وينابيع مياه.

نتيجة لذلك، تناقصت أعداد الثروة الحيوانية بشكل كبير لدى أبو مهيوب كغيره من أهالي خربة الحمة والأغوار عامة، فبعد أن كان يملك ما يزيد عن 500 رأس من الماشية بين أبقار وأغنام قبل حوالي عشر سنوات، يملك اليوم 150 رأسًا فقط، بالكاد يؤمن احتياجاتها من المأكل والمشرب، بعد استيلاء المستعمرين على منابع وعيون المياه كافة التي يستخدمها الرعاة، ومن أواخرها عين الحمة التي شرع المستعمرون بالاستيلاء عليها مؤخرًا، فضلاً عن استيلائهم على المساحات الرعوية وتسييجها، والاستيلاء على أغلبية الأراضي الزراعية التي كان المواطنون يزرعونها بالمحاصيل البعلية ويستغلونها لتوفير أعلاف المواشي.

تشير إحصائيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان إلى أن عمليات بناء البؤر الاستعمارية الرعوية شهدت تزايدًا خطيرًا خلال العقد الأخير، كما وصل عدد البؤر المقامة في الضفة حتى نهاية العام الماضي 2024 إلى ما مجموعه 137 بؤرة زراعية ورعوية تمنع وصول المواطنين إلى ما مجموعه 489 ألف دونم.

يصف فقها ما تشهده الأغوار الآن بأنه أخطر ما شهده على امتداد عمره الذي عاشه فيها، فالآن غدت مسألة البقاء هي الأكثر خطورة، خاصة أن المنطقة باتت مستباحة للمستعمرين الذين يأخذون على عاتقهم تهجير تجمعاتها، وبدعم مطلق من سلطات الاحتلال التي تغذي ميليشيات المستعمرين الذين ينفذون الاعتداءات، كما تقدم كافة التسهيلات وتنفذ مشاريع ضخمة في مجال توسيع البناء الاستعماري.

توحي الوقائع على الأرض بما لا شك فيه أن المستعمرين اليوم يقودون المرحلة الأخطر في تاريخ الأغوار، حيث غدوا بانتهاكاتهم واعتداءاتهم التي وصلت إلى مراحل في غاية الخطورة الذراع التنفيذية لسلطات الاحتلال لتنفيذ مخططات استعمارية كبرى بدأت منذ عقود وتسارعت مؤخرًا لضم الأغوار وتهجير سكانها.

توضح الإحصائيات الأخيرة لدى هيئة مقاومة الجدار والاستيطان أن أكثر من 30 تجمعًا رعوياً وبدوياً تعرضت للتهجير خلال العامين الأخيرين عن أماكن سكنها، خاصة في مناطق السفوح الشرقية والأغوار، تزامنًا مع حرب الإبادة التي شنها الاحتلال على قطاع غزة، وهذا الرقم يعكس تسارعًا خطيرًا في عمليات التهجير بسبب تصاعد عنف المستعمرين.

يرقب أبو مهيوب بقلق ما حل بتلك التجمعات، ويخشى وصول كافة تجمعات الأغوار إلى المصير ذاته، لكنه يؤكد أنه عاش جل حياته في كد وعذاب مرير من المستعمرين وسلطات الاحتلال وهو يصر على التشبث بأرضه، كما أن أبناءه وأحفاده كذلك يؤكدون أن لا مكان آخر يستطيعون العيش فيه.