بقلم: سامي أبو سالم
في صالة فرز جثث الشهداء بمستشفى ناصر بخان يونس، جنوب القطاع، جلست الفتاة ندى زغرة على ركبتيها، تساعد أمها وأخيها في التعرف على جثة رجل ممددة في كيس بلاستيكي على الأرض، للتأكد مما إذا كانت الجثة تعود لأبيها أم لا.
تفحصوا جميعهم أسنانه وأذنيه وأصابع يديه وقدميه، فوقعوا في مزيد من الحيرة. ثم كشفت الزوجة عن ملابسه الداخلية كدليل أخير للتأكد، عندها أيقنت أن الجثة تعود لزوجها محمد زغرة (48 عامًا) من مدينة غزة، الذي اختفت آثاره قبل عامين.
جلست ندى وأمها جانبًا تبكيان بصمت، وانشغل شقيقها بالاتصال بأقاربه لتحضير إجراءات الدفن. ثم استجمعت الفتاة قواها وقالت: "عامان لم نعلم مصير والدي، هل هو حي أم دُفن تحت ركام أحد البيوت أم معتقل."
ولم تخفِّ ندى غضبها من أسلوب "تعذيب العائلات" الذي تمارسه قوات الاحتلال، بممارسات "سادية" عبر إرسال جثث الشهداء بدون أسماء أو أي إشارة تدل عليهم.
وقالت ندى، ابنة الشهيد، الذي كان يعمل سائقًا ويعيل أسرة من 7 أفراد: "لا نعلم تاريخ ومكان استشهاده ولا كيف استشهد".
وسلمت قوات الاحتلال، عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر، حتى ظهر الأحد، 150 جثة لشهداء فلسطينيين كانت محتجزة لديهم، لكنها بدون أسماء أو أي علامات تدل عليهم، وفقًا لوزارة الصحة.
في صالة الفرز، كانت هناك نحو 7 جثث ممددة على الأسرة، يحيط بكل سرير طاقم طبي للفحص السريع ومحاولة تشخيص سبب الوفاة أو أي إشارة جنائية أو طبية.
بعض الجثث كانت معصوبة العينين ومقيدة اليدين إلى الخلف. جثة واحدة عارية تمامًا، وحبل حول الرقبة كما لو أنها تعرضت لإعدام، وجلدت ببقع مختلفة الألوان، وأخرى تعرضت لبتر في الأصابع، وأخرى بأطراف مهشمة.
في زاوية الصالة الأمامية، كانت هناك جثة لرجل عليها بقع صغيرة في جهة من الرأس وفتحة في الناحية الأخرى، قال أحد أفراد الطاقم الطبي إنها غالبًا تعرضت لإعدام. جثث أخرى كانت برؤوس مهشمة، وأخرى مكسورة الأسنان، وأخرى بفم محشو بالرمل.
تصل الجثث في أكفان بلاستيكية عبر شاحنات تبريد، في ظل نقص ثلاجات الموتى. بعضها منتفخ، وبعضها في حالة شبه ذوبان، وأخرى في حجمها الطبيعي، معظمها متحللة لكنها شبه كاملة ومجمدة، كأنها تم تجميدها بعد أيام من القتل. بعضها بملابس مغطاة بالرمل، وبعضها بدأ يتسرب منه الدم بعد خفوت وطأة التجميد.
في قاعة جانبية مزودة بشاشة عرض، حضر عشرات المواطنين من ذوي المفقودين لمتابعة صور الشهداء التي يعرضها موظف من وزارة الصحة لتسهيل التعرف عليهم.
يُعرض الشهداء كأرقام ثم صور تقريبية، بما في ذلك الوجه والأسنان والملابس والأصابع وأي علامات فارقة، ليتمكن المواطنون من التعرف على ذويهم.
أشار شاب بريبة إلى صورة وقال: "هذا أخي"، لكن بعد أن أحضروا الجثة دخل في حيرة، فلم يستطع الحسم ما إذا كان أخاه أم لا.
مدد موظفون جثة لشهيد، وقد غابت ملامحه وظهرت صغيرة في الرأس والرقبة. وقف الشاب ورفاقه يقلبون الجثة ويفحصون أسنانه وملابسه وأطرافه. لاحظ بقعًا قاتمة اللون بحجم نحو نصف سم، وقال: "يبدو أنهم أعدموه عن قرب".
تواصل الشاب، الذي رفض الحديث للصحفيين، مع ذويه لمساعدته في التعرف على الجثة، لكن دون جدوى.
وعرض صورة لشقيقه مبتسمًا، كانت مخزنة في هاتفه المحمول، لمقارنة الأسنان، لكنه لم يستطع الحسم وانغمس في حالة أشبه بالحيرة والاكتئاب.
قال المواطن أكرم أحمد، الذي كان يتابع الصور: إنه يبحث عن شقيقيه اللذين اختطفهما جنود الاحتلال من منزلهما في منطقة "بئر النعجة" في جباليا شمال قطاع غزة في تشرين الثاني/نوفمبر 2024.
وأضاف: أنه لا يعلم شيئًا عن أخويه محمد (35 عامًا) والد 4 طفلات، وأمجد (32 عامًا)، مؤكدًا أنه لا يعرف هل أعدموهما أم اعتقلوهما، فهو يآتي هنا لليوم الثاني على التوالي لعلهما من بين الشهداء.
وأشار إلى أنه جاء الأسبوع الماضي إلى مجمع ناصر الطبي الذي شهد استقبال نحو 1700 أسير أفرج عنهم الاحتلال، لكنه لم يجدهم بين الأسرى المفرج عنهم.
واستغرب أحمد من إرسال قوات الاحتلال جثثًا لأكثر من 100 شهيد بدون أسماء، "هذا سلوك همجي".
وكانت قوات الاحتلال أفرجت عن 1700 أسير فلسطيني من غزة احتجزتهم دون تقديمهم لمحكمة أو أي إجراءات قانونية، ضمن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة.
رائحة الجثث المتحللة تملأ المكان، ونسوة يبكين على أبنائهن وأزواجهن، وشبان يتنقلون بين الصالات لتفحص جثث أو متابعة عرض الصور، وآخرون يتصلون بذويهم للمساعدة في التعرف.
وقال مدير الطب الشرعي، الدكتور أحمد ضهير: إن الجثث تصل من الاحتلال عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بدون أي إشارة سوى 6 منها.
وأشار إلى أن هناك جثثًا معصوبة العينين ومقيدة اليدين إلى الخلف، وعليها آثار تعذيب، مضيفًا: "أرسلوا 6 جثث بأسماء وتبين أن 2 منها أسماء ومواصفات غير صحيحة".
ولفت إلى أن الوزارة لا تملك القدرة على التشخيص الدقيق بسبب نقص المعدات ومعامل لفحص الحمض النووي (DNA)، وكل ذلك بسبب الحصار الإسرائيلي.
وأضاف ضهير: أن العائلات تتعرف على ذويهم من الملابس والأسنان والعلامات المميزة، لكن الأمر ليس سهلاً.
ولم يتمكن أهالي المفقودين من التعرف إلا على 25 جثة من أصل 150، وفقًا لوزارة الصحة.
قالت امرأة مسنة، رسمية قديح من قرية خزاعة شرق خان يونس: إنها تبحث عن ابنها فادي الذي اختفى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.
وأضافت: ابني اختفى ثم قصف الاحتلال بيته وقتل زوجته وأطفاله الأربعة في 26 أكتوبر 2013، وأوضحت أنها لم تستطع التعرف على جثمان ابنها بسبب تشوه الجثث.
وأعلنت مصادر طبية أن نحو 9500 مواطن اختفت آثارهم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة، منهم شهداء تحت الأنقاض أو لدى قوات الاحتلال أو أسرى أو لم يعرف مصيرهم، فيما قتلت قوات الاحتلال أكثر من 68 ألف مواطن منذ بداية العدوان.
ويأتي تسليم قوات الاحتلال جثامين الشهداء في إطار وقف إطلاق النار بغزة، الذي وقع في القاهرة برعاية مصر وأميركية وتركيا وقطر، وبدأ حيز التنفيذ الأسبوع الماضي.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها