بقلم: حنين خالد

لم تكن الحرب في غزة مجرد عدوان عسكري، بل زلزالاً مدمرًا اجتاح الأرواح قبل الحجر. من بين الركام، ومن داخل خيام النزوح، يتحدث من تبقّى من الناجين بشهادات لا تُروى بسهولة؛ شهادات مكتوبة بالدم، والدمع، والصبر الذي يتكئ على الحطام.

- تحسين الأسطل: "لم يُدمّر منزلي فقط.. بل دُمّرت حياتي"

هكذا يفتتح الصحفي تحسين الأسطل شهادته بكلمات تشبه النعي، لكنها موجهة إلى حيّ لا يزال يتنفس رغم موته: "ما دُمّر لم يكن منزلي فقط.. بل كثير من تفاصيل حياتنا".

يصف الأسطل مشهد ما بعد الحرب وكأنه قرن من الزمان سُرق من الحاضر، قائلاً: "الحياة المدنية انهارت تمامًا، وعاد بنا الاحتلال عقودًا إلى الوراء. من اليوم الأول، كان واضحًا أن الهدف ليس فقط القتل، بل محو الوجود".

اليوم يعيش الأسطل في خيمة مع عائلته، ويستذكر منزله المدمر قائلاً: "55 عامًا من عمري دفنتها هناك. كل حجر، كل شجرة نمت معنا ماتت معنا، كل لحظة كانت جزءًا منا".

ورغم كل شيء، يرفض الأسطل الاستسلام: "نحتاج إلى تعافٍ حقيقي، منظم، لا شعارات عابرة. الأمر لن يكون سهلاً، لكنه ممكن إن تضافرت الجهود. أما إذا تُركت الأمور للفوضى، فسنواجه بدائل أكثر كارثية".

- سامي ضهير: لن أعود قبل أن تعود غزة

"لم أكن أظن أن الوداع سيكون بهذه القسوة" بهذه الكلمات بدأ سامي ضهير رواية تجربته مع النزوح والعودة، والتي تحوّلت سريعًا من لحظة فرح إلى صدمة لا توصف.

خلال الأيام الأولى من الحرب، نزح ضهير مع عائلته من غزة تحت أزيز الطائرات وصوت القصف، يقول: "تركنا منزلنا مجبرين لا مخيّرين. حملنا بعض الأغراض وكثيرًا من الحزن. استغلنا أصحاب السيارات، فدفعنا 3000 شيقل للوصول إلى المواصي في خان يونس، حيث استقرّنا في خيام تفتقر لأبسط مقومات الكرامة: لا ماء، لا كهرباء، ولا أمان".

وعندما سمعوا عن الهدنة، عاد الأمل. يقول ضهير: "ذهبت وحدي إلى غزة، حالمًا بالعودة إلى منزلي. لكن ما رأيته لا يُصدّق، شقتي تحوّلت إلى أنقاض. لا جدران، لا أثاث، لا حياة. حتى الهواء كان باردًا وغريبًا، كأن المكان يرفض من كان يملكه".

عاد ضهير إلى خيمته محطمًا، مؤكدًا: "لن أعود إلى غزة قبل أن تعود غزة".

- عبد الهادي عوكل: على حافة الموت كل يوم

الصحفي عبد الهادي عوكل يصف تجربته خلال الحرب بأنها عبور في الجحيم، يقول: "لم أكن أعيش حربًا، بل كنت أتأرجح يوميًا بين الحياة والموت. صواريخ الاحتلال سقطت فوق بنايتنا، بعضها لم ينفجر، وبعضها محا منازل الجيران وجثثهم بلا وداع".

في 9 أيلول، كاد يفقد حياته وعائلته، يقول عوكل: "خرجنا من البيت لبضع دقائق فقط، وفي غيابنا سقط الصاروخ. شقتنا تحولت إلى كومة حجارة. كأن القدر أمهلنا للحظة أخيرة".

نزح عوكل مع عائلته من حي إلى آخر، تاركًا وراءه منازل لم يعد لها أثر، أو لم يسكنها قط. اليوم يعيشون في الخيام، وسط الشتات والجوع، وأطفاله السبعة يعانون من المرض وسوء التغذية.

يقول عوكل: "المنظومة الصحية انهارت. ركضت يوميًا خلف تحويلات علاجية، وسط خذلان تام، حتى حصلنا على فرصة للعلاج في الخارج. انتصار صغير في معركة البقاء".

لكنه يؤكد أن الصراع لم ينتهِ: "غزة اليوم تعيش صراع البقاء، لا ماء، لا مدارس، لا مستشفيات، لا حياة. ما نحتاجه هو إعادة إعمار الإنسان قبل إعمار البنايات".

ويختم شهادته قائلاً: "كصحفي، لم أتوقف عن العمل رغم الخطر. الاحتلال استهدف الإعلام مباشرة، لكننا قاومنا. نقلنا الحقيقة رغم محاولاتهم خنق صوت غزة. استشهد أكثر من 255 صحفيًا، لأن الكلمة ترعب المحتل".

- مؤمن الطلاع: الجراح الأعمق لا تُرى

أما الصحفي مؤمن الطلاع، فيلخص مأساة ما بعد الحرب بجملة: "انتهت الحرب، لكن اشتعلت نار في أعماقي لا يسمع هجيجها إلا قلبي".

بعد أن فقد بيته وأبنائه، يقول إن الدمار الحقيقي لم يكن في البنيان بل في الداخل: "كل ركام في غزة يوقظ ذكرى، كل حجر مكسور يعيد وجعًا مدفونًا. لا نخاف الأنقاض فقط، بل نخشى ما تفتحه فينا من جراح".

ويضيف الطلاع: "رغم انعدام المقومات الأساسية، نحاول البقاء. نبدأ بإعادة بناء ذواتنا، لأن القلب المنكسر أصعب من البيت المهدوم. البيوت يمكن أن تُشيد من جديد، أما القلوب فتحتاج عمرًا كاملاً لتلتئم".

- هاني أبو رزق: "توقفت الحرب.. لكن الوجع لم ينتهِ"

انتهت الحرب، لكن المشاعر في داخلنا لا تزال عاجزة عن أن ترتّب نفسها. هناك فرح خجول لأنها انتهت، لكن الحزن أعمق، أثقل، وأصدق.

ليس الحزن على الدمار فحسب، بل على الناس أيضًا. على الزملاء الصحفيين الذين رافقونا في الميدان وفقدناهم، على وجوه كانت معنا وصارت في الذاكرة.

ويضيف بكلمات مؤلمة: "الوجع لم يمنحنا راحة، لأن ما بعد الحرب قد يكون أصعب من الحرب نفسها".

يقول أبو رزق: "حربٌ لم تُفرّق بين طفل وحجر، بين طبيب أو صحفي أو مسعف. عدنا من الموت، لكننا لم نعد إلى حياة طبيعية، بل إلى وجع يومي جديد. كلنا كنّا أهدافًا، وكل شيء كان مستهدفًا".

ويتابع: "الأزمات تُحاصرنا من كل اتجاه: أزمة مواصلات تجعل أبسط رحلة تستغرق أربع ساعات، أزمة وقود وغاز خانقة، تراكُم نفايات، شوارع مغلقة بالركام، وطرقات مقطّعة بفعل القصف، مدينة مدمرة من الداخل والخارج، وسكانها يحاولون التنفس وسط الركام".

ويواصل أبو رزق: "الحياة اليوم أشبه بسجن كبير. قبل الحرب كنّا في سجن، وبعدها أصبحنا في سجن أكبر، كأننا ننظر إلى العالم من نافذة مكسورة".

ويضيف: "ما شهدناه في الحرب يفوق الوصف: أجساد محترقة، جرحى بإصابات لا تُحتمل، شهداء تناثرت أجسادهم في الشوارع، قصف متواصل، نيران وصواريخ، كل أنواع الأسلحة جُرّبت على غزة. كل بيت فيه شهيد، وكل شارع عليه دم".

ويتابع: "بعد أن توقفت الحرب؟ لا يزال الناس غير مصدّقين أنها انتهت. الوجوه في الشوارع باهتة، العيون خائفة، النفوس مجروحة، والكلّ يعاني بصمت. الجميع يعيش، لكن كأنهم لا يعيشون".

ويضيف أبو رزق: "رغم هذا الدمار الهائل، فإن المساعدات لا تصل كما يجب، والكميات التي تدخل قليلة جدًا، والغلاء يخنق الناس، والمعابر مغلقة، والمستقبل غامض".

ويختم أبو رزق شهادته على الوجع المستمر: "غزة اليوم ليست مجرد مدينة خرجت من حرب، بل جرح مفتوح، نزيف مستمر، وصرخة لم يصل صداها بعد، إنها شعب يحاول أن يعيش، رغم كل ما حوله من ألم وخراب وصمت ثقيل".

- نائل حمودة: معاناة غزة التي لا تنتهي لكن أملها لا يموت

عامان من الحرب والقصف، عامان لا تُقاس بعدد الأيام والساعات، بل بعدد الغارات، وعدد الضحايا، وعدد الأحلام التي طُمِرت تحت الركام، غيرت معالم البشر والحجر، والتهمت كل تفاصيل الحياة. يقول نائل حمودة: "المعاناة أكبر من أن توصف بالكلمات، فحجم المأساة لا يشبه أي كارثة إنسانية. القصف لم يقتل الأجساد فقط، بل دمر النفوس وسرق الأمل، وأطفأ كل ما كان ينبض بالحياة".

ويضيف: "في بلدتي بيت لاهيا، كما في مناطق القطاع، لم يعد هناك شيء يُشبه الحياة: لا مدارس، لا مستشفيات، لا جامعات، لا بيوت، فقط ركام وصحراء خالية من ملامح الحياة".

ويتابع: "هذه المرة صعبة؛ اليوم مع توقف الحرب بدأنا مرحلة جديدة بعد الألم لا تقل صعوبة، منزلي وتعابير ذكرياتي تحوّلت إلى غبار. ألعاب طفلتي الصغيرة، صورنا، ماضينا، ذكرياتنا كلها تحت الأنقاض وأصبحت في مهب الريح. لم يتبقَّ شيء، لقد فقدنا كل ما نملك، ولكننا لم نفقد إرادتنا".

قصص وحكايات توجع القلوب وتذرف الدموع، كل عائلة لها قصص موجعة تحتاج إلى كتاب، وروايات لسرد قصص الناس، جوع حقيقي ومجاعة قتلت الصغير قبل الكبير.

ومع ذلك، وبالرغم من كل المعاناة والمأساة والفقدان، يقرأ حمودة في عيون ووجوه الغزيين الصمود والصبر على البقاء للعودة إلى الحياة، ويقول: "نعود لنُعمّر، نعود من أجل أطفالنا ومن أجل مستقبلهم. نعلم أن الطريق صعب والجراح عميقة؛ ولكن غزة لن تموت. سيعيد أهلها بناءها حجرًا حجرًا، فمن تحت الركام يولد الأمل، ومن بين الدمار تنهض الإرادة".

ويختم حمودة: "كإعلاميين لا نحمل فقط الكاميرا أو القلم. نحن نحمل أمانة صوت الناس، وجعهم، مطالبهم، وحقوقهم. واجبنا اليوم أن نكون في الميدان، نرصد، نوثق، ننقل، نُطالب. الإعلام ليس حيادًا أمام الدم، بل التزام بالحق ودفاعًا عن الإنسان. سنكتب، ونصور، ونوثّق ليس فقط الألم، بل أيضًا النهوض والبناء والانتصار للحياة".

- أصوات من تحت الأنقاض

شهادات تحسين، وسامي، وعبد الهادي، ومؤمن، وهاني، ونائل ليست سوى نماذج من آلاف القصص التي تختبئ بين ركام غزة، بين الأنقاض، تحت الخيام، وعلى أطلال البيوت المنهارة، كلها تتقاطع عند نقطة واحدة.
اليوم، قطاع غزة لا يحتاج فقط لإغاثة عاجلة، بل لخطة إنقاذ شاملة تُعيد الحياة، والأمل، والكرامة إلى شعب أنهكه الحصار والدمار، لكنه ما زال يرفض أن ينكسر.