دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا باهظًا جدًا من دمه ومقدراته قبل أن يصل العالم إلى استنتاج أن حرب الإبادة الجماعية يجب أن تتوقف، وأن يفكر بالطرق الأفضل لتحقيق السلام والأمن والاستقرار في الشرق الأوسط. لقد تعرض الشعب الفلسطيني لأبشع عقاب جماعي، شمل مذابح وتدميرًا شاملًا للقطاع، وفي الضفة الغربية تعرض للإرهاب من قبل المستوطنين، ومئات البوابات والحواجز، واعتقالات واقتحامات، وتدمير مخيمي جنين وطولكرم، ومحاصرة السلطة الوطنية الفلسطينية ماليًا وسياسيًا، والتهديد بتفكيكها. مر الشعب الفلسطيني بأوقات صعبة وحدثت له فاجعة كبيرة قبل أن يحدث التغيير.
مشهد الإبادة الذي رفضه الرأي العام العالمي بدا أن القادة السياسيين، وخاصة في أوروبا، لم يعد بمقدورهم رؤية هذا المشهد وتحمل مسؤولية استمراره، وبدأ هؤلاء القادة بالتحرك وممارسة الضغط. نذكر على سبيل المثال عندما وجهت بريطانيا وفرنسا إنذارًا لنتنياهو بأنه إذا لم يوقف الحرب فإن هذه الدول ستعترف بدولة فلسطين، وقد نفذوا تهديدهم، ومن ثم انضم الرئيس الأميركي ترامب لهذه القناعة في محاولة إنقاذ إسرائيل من غطرستها.
نتيجة كل ذلك جاءت في قمة شرم الشيخ، التي من الواضح أنها بداية مرحلة جديدة في الشرق الأوسط، مرحلة تحمل مؤشرات تبعث بالأمل بمسار سلمي يقود إلى حل الدولتين. وهو الحل الذي بات معظم العالم يدعمه بقوة بعد أن اعترفت 151 دولة بالدولة الفلسطينية، بما فيها بريطانيا التي أصدرت قبل أكثر من قرن وعد بلفور.
بهذا المعنى، تمثل قمة شرم الشيخ عمليًا الإرادة الدولية التي أوقفت الحرب، والتي تريد إعادة دولة فلسطين إلى خريطة المنطقة بعد غياب استمر 77 عامًا، عندما تم تفكيك فلسطين التاريخية في نكبة عام 1948 وتم تمزيق الشعب الفلسطيني وتشريد معظمه خارج وطنه.
وتكمن أهمية القمة بطبيعة ونوعية الحضور: الولايات المتحدة والرئيس ترامب، الزعماء الرئيسيون من أوروبا مثل الرئيس الفرنسي ماكرون، رئيس الحكومة البريطانية ستارمر، رئيسة وزراء إيطاليا ميلوني، ورئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز، وغيرهم من الزعماء، إلى جانب حضور الزعماء العرب والمسلمين. وأهمية القمة تأتي أيضًا من حضور الرئيس محمود عباس بصفته رئيس دولة فلسطين، التي تعترف بها الغالبية العظمى من دول العالم. هذا الحضور هو ثمرة أولًا لتضحيات جسيمة للشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، وثانيًا ثمرة لتاريخ طويل ومرير من كفاح الشعب الفلسطيني من أجل حريته واستقلاله، وثالثًا نتيجة السياسة العاقلة والذكية والواقعية للرئيس عباس والقيادة الفلسطينية، ورابعًا ثمرة جهود دول عربية، مثل السعودية ومصر والأردن وقطر والإمارات، إلى جانب جهود دولية من مختلف القارات، من أوروبا بقيادة فرنسا وإسبانيا، ودول مثل جنوب إفريقيا والبرازيل، والدور الخاص لتركيا.
وإذا كانت الأهمية بطبيعة الحضور، فإن القمة تشكل ضمانة لوقف الحرب بشكل نهائي على قطاع غزة، وضمانة لالتزام جميع الأطراف بخطة ترامب، التي يجب أن تقود إلى حل الدولتين، ليس فقط لأن البند التاسع عشر في خطة ترامب يتحدث عن الدولة الفلسطينية، بل أيضًا لأن ذلك أصبح يعبر عن إرادة دولية وإرادة الرأي العام العالمي.
القمة هي بداية مرحلة جديدة تتسم بدرجة من التضامن والتنسيق بين الدول العربية الرئيسية، وتضامن دول إسلامية رئيسية مثل تركيا وباكستان وإندونيسيا، وهو ما ساعد في تعديل ميزان القوى الذي تبدل كثيرًا في المنطقة بعد عامين من حرب إقليمية لم تنحسر في قطاع غزة. ومن دون شك، فإن إسرائيل نجحت بدعم أميركي في تغيير الكثير مما كان عليه الشرق الأوسط، إلا أن وحدة الموقف العربي والإسلامي تشكل محاولة لتعديل هذا الواقع.
وخلال العامين الصعبين، عندما كانت القضية الفلسطينية مهددة بالتصفية عبر التهجير والضم، كان جزء مهم من امتصاص الاندفاع اليميني الإسرائيلي في محاولته للتصفية، هو الموقف المتوازن للرئيس محمود عباس وعدم انجراره لردود فعل كانت يمكن أن تعصف بكل مكتسبات النضال الفلسطيني. وفي نهاية المطاف، وجد المجتمع الدولي في مواقف الرئيس عباس رافعة لإعادة الحياة لحل الدولتين، والضغط لمنع الضم والتهجير، والوصول إلى اللحظة التي أوقفت الحرب. ولعل المصافحة الحميمة بين الرئيس عباس والرئيس ترامب تعكس طبيعة المرحلة الجديدة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها