هل تحقق القوة المادية العسكرية السلام، أم قوة الإيمان بمنهج السلام كمبدأ يمنح الحياة الإنسانية معناها ومتطلباتها الحقيقية؟ فالقوة العسكرية قد تحسم صراعات في مكان ما لزمن محدد، لكن القوي لا يمكنه إنكار بقاء جذواتها جمراً تحت الرماد، تعود للاشتعال عندما تتوفر الظروف المناسبة. أما السلام المبني على أركان عدالة شاملة، وإن لم تكن مطلقة، فهو السبيل المؤدي حتماً للأمان والازدهار والاندماج في المجتمع الحضاري الإنساني. كما أنه المركب الأسرع من الضوء لبلوغ أهداف السياسة الدولية، التي لطالما أعرب المتحضرون في العالم عن تبنيها كمنهج وبرنامج عمل يحظى بصدى واحد.
أما ما يسمى بـ"سلام القوة"، فإنه سيبقى مصدر ردود أفعال متعددة زماناً ومكاناً، لا تستطيع تكنولوجيا الحرب توقعها أو رصدها، لكونها لا تخضع للسيطرة المطلقة. لذلك يناضل محبو السلام في العالم، ونحن منهم، لرفع قواعد بيت السلام العالمي ارتكازاً على مبادئ الشرعية الدولية والمواثيق الأممية وقوانينها وقراراتها، التي من شأنها حفظ توازن هذا البيت وصموده في وجه زلازل الإرهاب وتجار الحروب وصناع أدواتها المعنيين باستمرار الصراعات الدموية، لتحقيق أرباح ومكاسب، دون أن يعنيهم إن تحولت البلدان التي غذوا صراعاتها بالأسلحة الفتاكة إلى مجرد مقابر أو مساحات شاسعة من الركام والخراب، أو مجتمعات بشرية متقاتلة تستشري فيها عقلية الإرهاب إلى ما لا نهاية.
كأنهم لا يدركون أن السلام الممنهج العادل وحده الكفيل بتحقيق أفضل الاستثمارات، إذا كان الإنسان- أياً كان جنسه أو عرقه أو عقيدته أو لونه- هو الهدف. أما القوة العسكرية، فمهما بلغت المكاسب من الاستثمار بها، فستبقى الأمم الإنسانية بمعانيها وقيمها الأخلاقية، وبصورة وواقع الإنسان المتحضر، هي الخاسر الأكبر.
سلام القوة العسكرية- كما يصفونه- لا يبدد الكوابيس، ولا ينهي القضايا والمشاكل، سواء كانت تاريخية أو ناشئة معاصرة، وإنما يضغطها حتى تؤصل الخوف والرعب من مخبوءات المستقبل. وهذا ليس متناقضاً تماماً مع مفهوم السلام فحسب، بل عنصر مضاد مانع لإحلال السلام في الفكر والثقافة والعمل والإبداع لدى الأفراد والمجتمعات والشعوب. أما ضغط القوة العسكرية والمادية، مع إحكام إغلاق منافذ الأمل، فهو طرف في معادلة الانفجار الحتمي، الذي سيصيب صاحب هذه النظرية أيضاً، ويحيط الخطر بمظاهر عمرانه وتكنولوجيا الحروب التي يفخر بها. والسبب هو اعتماده القوة للسيطرة على شعب آخر، واستعباده ومنعه من تقرير مصيره. وهذا الفعل اللاإنساني بحد ذاته ينسف جوهر السلام، وعلى من يتحدث عن السلام أن يعلم أن السلام لا يستوي إلا بالإنسانية، التي يستحيل انسجامها وتفاعلها مع مفاهيم التفوق والتمييز والعنصرية.
إن ترسيخ السلام في البنية الثقافية للشعوب شرط لاستقامة بنائها، وأن تحشيد وتعزيز القوة العسكرية- أياً كان مستواها، حتى لو كانت نووية أو أسلحة دمار شامل، بقصد تكريس توازنات لفرض سلام من نوع ما- فإن هذه القوة لن تخلع خوفاً دائماً في قلوب الناس. فالاطمئنان والشعور بالأمان في ظل عدالة نقية من الانتقائية، ومنهج سياسي يقدس النفس الإنسانية دونما تمييز، هو المعنى الحقيقي الجوهري للسلام.
بالأمس، التقى خطاب بنيامين نتنياهو، رئيس ائتلاف حكومة الصهيونية الدينية التلمودية، ورئيس المعارضة يائير لابيد، على نقطة السلام القائم على القوة. واعتبرا الوقوف ضد الإبادة بحق الشعب الفلسطيني، وضد سياسة الاحتلال والاستعمار الاستيطاني العنصري لحكومات دولة الاحتلال إسرائيل، تمركزاً في جبهة الشر، ليكونا بهذا الخطاب المشتق من مرجعية واحدة قد أكدا وبرانوا على نزعة الحرب المتأصلة، إدراكاً منهما لدور منظومتهما المرسوم سلفاً لتقرير مستقبل شكل ومضمون المنطقة.
لكنا نذكرهم نحن المؤمنين بمنهج السلام: "إنا هنا كنا، وهنا باقون، وهنا سنكون". أما القوة فلم تقلع جذور شعب متأصل بقيم الحضارة الإنسانية من أرض وطنه أبداً. وليسألوا الدول الاستعمارية الكبرى عما أنجزته القوة في مشاريع الاستعمار، ولماذا اتخذوا اليوم السلام لفلسطين نهجاً.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها