على نحو بات بليغًا، وضع الرئيس أبو مازن الواقعية السياسية في مقام جديد، بعيدًا عن تعريفاتها التقليدية التي تربطها بالبراغماتية، وأحيانًا بالنهج الميكافيلي، حين جعلها نهجًا نضاليًا، متمسكًا بلا أي مراوغات، بالثوابت الوطنية المبدئية، وخطابًا للمصداقية بحد ذاتها، وعلى قاعدة: "نطقي صحيح لأن جروحي صحيحة". ولعل هذا ما جعل الرئيس الأميركية دونالد ترامب، في قمة شرم الشيخ، يصف الرئيس أبو مازن بأنه صوت الفلسطينيين. ولطالما كان هذا الصوت، معتليًا منابر العالم المختلفة، لا يتحدث بغير جراح فلسطين وعذاباتها، ومظلوميتها الكبرى، وهو يدعو إلى ضرورة إحقاق الحق، وإبرام عقد العدل والخير والحرية والسلام.

لم يغفل الرئيس أبو مازن، في واقعيته السياسية، أي اعتبارات عملية، ولم يتجاهل الواقع ومعطياته والقوى الأساسية المؤثرة فيه. لم يهرب من حقائقه، ولم يخشَ من اختلال موازين قواه لصالح المحتل الإسرائيلي. وبالتبصر والحكمة، وظف كل تلك الاعتبارات وتفحص الواقع دون أي توهم، حتى صاغ معادلة الضربة تلو الضربة بالقوة الناعمة والدبلوماسية والسياسية والمعرفية، في تجلياتها الثقافية والقيمية الحضارية، لهدم جدران الاحتلال الإسرائيلي واحدًا تلو الآخر، حتى زواله عن أرض دولة فلسطين.

دارت دوائر وقوى إقليمية عديدة تسعى في دروب المخططات الرامية لتجاوز الشرعية الفلسطينية وقائدها الرئيس أبو مازن، وإسرائيل من جهتها أرادت من حربها العنيفة على قطاع غزة أن تكون الضربة القاصمة للشرعية الفلسطينية وحل الدولتين، مستغلة ضجيج حربها على القطاع لتمكين ضربتها هذه، بإطلاق سلسلة من العمليات التعسفية العدوانية لجيشها ومستوطنيها ضد الضفة الفلسطينية المحتلة، التي طالت ليس أهلها فحسب، بل وبيوتهم ومساكنهم وحقولهم أيضًا، حتى إن شجر الزيتون بات هدفًا لعمليات السرقة والاقتلاع من قبل المستوطنين، وكأن لهؤلاء عداوة عقائدية مع هذه الشجرة المباركة.

وبالتبصر والحكمة ذاتهما اللذين يتحلى بهما الرئيس أبو مازن، لم يتمكن الاحتلال الإسرائيلي من خلق الذرائع التي يريد، لتوسيع عملياته العدوانية في الضفة الفلسطينية المحتلة إلى حد جعلها حربًا فاشية كالتي أشعلها ضد قطاع غزة.

وبالتبصر والحكمة، ترسمت الواقعية السياسية مع الرئيس أبو مازن على نحو لم يعد قابلاً للجدل أو التشكيك، ترسمت حقًا كنهج نضالي فتح الطريق لحل الدولتين، حتى صارت جلية تمامًا بعد الاعترافات الدولية المتتالية واللافتة بدولة فلسطين، وصارت أكثر وضوحًا في قمة شرم الشيخ، التي بحثت في إنهاء الحرب تمامًا، وقال على لسان المضيف الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن ذلك لخلق الأفق السياسي اللازم لتنفيذ حل الدولتين. وبهذه الصورة، ومع هذا الخطاب، تتجلى واقعية الرئيس أبو مازن، صاحبة إنجاز تاريخي وحل واقعي، وقد دحرت هذيانات الخطابات الشعبوية.