وأبناءُ الشعب في قطاع غزة يضمدون جراحهم وندوبَ الإبادة الجماعية الإسرائيلية وحربَ المجاعة، ويلملمون أوجاعَهم من أفظع كارثةٍ إنسانية شهدها تاريخُ الصراع. ما زالوا يقطبون مآسيهم بمسلةِ الحرمان والفاقة والدمار، ومع سعيهم للعودة إلى بيوتهم المدمرة أو نصف المدمرة والآيلة للسقوط- بحثًا عن إمكانية ترميمها أو عن بعض مقتنياتهم وملابسهم لتغطية احتياجاتٍ حدّية- تعود ميليشياتُ وعصاباتُ حركةِ حماس لممارسة دورها التخريبي في القطاع المنكوب، مستغلةً إبادة العامين التي اتخذتها ذريعةً لهجومها في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. مع أن الجيشَ الإسرائيلي لم ينسحب إلا من 53% من مساحة القطاع، أي ما زال جاثمًا على أنفاس الناس في غزة، ويواصل القتلَ اليوميّ لأبناءِ الشعب.
وفي الوقت الذي تفرضُ فيه الضرورة على عناصرِ وكوادرِ حماس مدّ الجسور مع أبناءِ الشعب والمساهمة في تعافيهم النسبي من نكبة الإبادة، والأخذِ بيدهم- لأنَّها تتحمّل، إلى جانب حكومة الإبادة الإسرائيلية، مسؤوليةَ ما حدث سواء عن قصد أو عن جهل في إدارة الصراع مع دولةٍ استعماريةٍ مزوّدةٍ بأحدث أسلحة الدمار الشامل في العالم- لم تذهب قيادةُ الحركة، خشيةَ عقابِ الشعب، إلى خيارِ الاعتذار عن الأذى الذي سببته لهم. بل اعتُبرت الحركةُ، بحسب تصريحاتٍ سابقة لوزيرِ داخليةٍ سابق، "حركةً ربانيةً" أخبر عنها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، أي أنهاـ بحسب بيانهمـ معصومةٌ من الخطأ. ولم تحاول على الأقل تكتيكيًا إظهار حسنِ نواياها والعملَ على تهدئةِ الأوضاع؛ بل لجأت إلى ملاحقة معارِضيها وارتكبت جرائمَ قتلٍ لعشرات من أبناءِ الشعب، كان آخرها- أول أمس الاثنين 13 أكتوبر الحالي- مع عائلة دغمش.
وقد سمحت إدارةُ الرئيس دونالد ترمب لبقاءِ حماس لفترةٍ مؤقتةٍ لتولي المسؤولية الأمنية في القطاع، ذلك ما ذكره الرئيس الأميركي حين كان متجهًا في نفس اليوم إلى إسرائيل وشرم الشيخ. وكان مهدَّ لذلك تصريحُ وزيرِ خارجيته ماركو روبيو في 5 أكتوبر الماضي عندما قال: "لا يمكن إقامة هيكل لحكم غزة دون حماس في ثلاثة أيام فقط"، وأضاف أنها "يجب أن تبقى في اليوم الثاني والثالث"، أي لفترةٍ مؤقتة.
وتعميقًا لما سبق، قال عضوُ المكتب السياسي للحركة محمود مرداوي: "من يظن أن موافقة المقاومة على لجنة فلسطينية مستقلة من التكنوقراط والخبراء تعني ترك "الفلتان الأمني" يعمّ القطاع أو إفلات المجرم من العقاب فهو مخطئ. ولم يفرق بين سد الذرائع والتخلي عن المسؤولية". تبدو تصريحاته وكأنها دعوةٌ لإفلات عصابات حركته من محاسبةٍ قد تُطالِبُ بها الجهاتُ المعنية، فيما صرّحَ إسماعيل ثوابته، مديرُ مكتب ما يسمى بالإعلام الحكومي في غزة، لوكالة "رويترز" بعد سريان وقف إطلاق النار، أن "الحركة لن تسمح بفراغٍ أمني، وأنها ستحافظ على سلامة الناس والممتلكات".
غير أن ممارساتِهم تقول خلافَ ذلك: فقد فعلوا ما فعلوه مع عائلة بكر (قتلوا ثلاثة من أبنائها سبتمبر/أيلول الماضي)، ومع عائلة المجايدة (قتل منهم سبعة)، وأخيرًا مع عائلة دغمش، حيث قتلوا بأسلوبٍ دونيّ ووحشي 33 شابًا، بعيدًا عن أبسط معايير القانون الفلسطيني والقيم والأخلاق الوطنية، ووفقًا لأجندتهم الأخوانية التي تقارِب أساليبَ قوى متطرفة خرجتْ من رحم جماعة الإخوان المسلمين. وتُستخدم ذريعةٌ مفضوحةٌ— اتهامُ الضحايا بأنهم "عملاء"— لتبرير إعداماتٍ ميدانية لمن عارضوا بقاءهم ليومٍ واحدٍ في تولّي الأمن في القطاع، في وقتٍ اكتوى فيه الشعب بنيران سياساتهم وعبثهم على مدار سنوات الانقلاب الأسود الثمانية عشر الماضية، ولا سيما في العامين الماضيين.
في استحضارٍ واضحٍ للأيام الأولى لانقلابهم الأخطر على مستقبل الشعب والأرض والقضية والمشروع الوطني والنظام السياسي باسم "الدفاع عن المقاومة"، قتلوا بدمٍ باردٍ ما يزيد على 700 مواطنٍ من منتسبي حركة فتح والأجهزة الأمنية الفلسطينية، وعاثوا فسادًا في الأرض. وهذا يكشف تهافت مزاعمِ ثوابته بشأن "المحافظة على سلامة الناس وممتلكاتهم"، إذ منعوا أبناءَ الشعب من العودة إلى بيوتهم، وعاثوا فيها تخريبًا، وحرمّوهم من التقاط أنفاسهم، ورفعوا العصا الغليظة في وجه الناس.
الخطيرُ أنَّ حركةَ حماس وزعرانها وعصاباتها تسير بخطى حثيثة تجاه تأصيل الفلتان الأمني وفتحِ الباب واسعًا أمام إشعالِ فتيلِ حربٍ أهليةٍ في قطاع غزة، ذلك لكسبِ رضا ومباركةِ دولة الاحتلال الإسرائيلي وداعميها، ولتأمين دورٍ لهم في اليوم التالي لإدارة القطاع، ومن ثم إنقاذ نتنياهو وائتلافه من أزماتهم مجددًا وتحويل بوصلةِ الصراع.
الأمرُ يستدعي من القيادة الفلسطينية وفصائلِ العمل الوطني، وكذلك الإخوة في مصر وقطر وتركيا، إيقافَ هذه المهزلة والكارثةِ الجديدة لإنقاذ الشعب من دوامةِ الموتِ والتخريب. كما يستلزم إفساحَ المجال لإدخال المساعدات الإنسانية بمشتقاتها المختلفة، والشروعَ في إعادةِ الإعمار، وتولّيَ الأجهزةِ الأمنيّة الوطنية والقوات العربية والدولية مسؤولياتِها فورًا ودون انتظار. كما ينبغي الضغطُ على الإدارة الأميركية لتنفيذ خطةٍ تقترحها مبادراتٌ سياسية- بما في ذلك بنودُ تسحبُ سلاحَ حركةِ حماس وتمنعُها من تولي أيِّ مسؤوليةٍ في إدارة القطاع- بغرض حمايةِ المدنيين وإعادةِ الاستقرار.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها