لا يختلف اثنان على دور الرئيس الأميركي في نزع فتيل الحرب في غزة، ومهما كانت الأسباب الكامنة وراء ذلك، فإن الأهم هو أن الحرب قد توقفت، بل انتهت فعليًا، ونحن في الشرق الأوسط أمام مشهد جديد.

عادت الولايات المتحدة بقوة إلى الساحة، لتمنع أي تزاحم لدولٍ أخرى قد تحاول الدخول إلى منطقة النفوذ. ويمكن قراءة الدعم الأميركي غير المحدود لإسرائيل من هذه الزاوية: إخضاع الشرق الأوسط مجددًا للنفوذ الأميركي بعد انسحابها الجزئي قبل عامين، الذي سمح بتمدّد النفوذين الروسي والصيني في الإقليم.

تحاول واشنطن اليوم، من خلال تدخلاتها المركزية، استعادة نفوذها وهندسة التوازن الإقليمي عبر إدارة المنطقة لا احتلالها، ومن دون التدخل المباشر في شؤون الدول.

وهذا كان جوهر خطاب الرئيس الأميركي، حيث أبرز فيه استعادة الدور الأميركي القوي في إدارة النفوذ في الشرق الأوسط من خلال تلميع صورة واشنطن، وإعلان انتهاء أدوار روسيا وإيران والصين وتركيا في صياغة المشهد الإقليمي، وتحدث بلغة فضفاضة عن السلام والاستقرار، من دون التزام بأي خطة سلام تفضي إلى تحقيق حقوق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية.
وذلك على عكس خطابه في الكنيست الإسرائيلي اليوم، الذي تحدث فيه عن التحالف الاستراتيجي بين أميركا وإسرائيل، والدعم الأميركي المطلق لها، والشراكة القوية، والنصر والأمن الذي تحقق في غزة بفضل الدعم الأميركي، وصورة إسرائيل في العالم بعد وقف إطلاق النار.

يعتمد النظام السياسي الأميركي، في سعيه إلى إدارة وفرض نفوذه في المنطقة، على ثلاثة محاور رئيسية: تحقيق الأمن والاستقرار لإسرائيل، وضمان استقرار الدول العربية المعتدلة، وتعزيز دور دول الخليج العربي في تحقيق الاستقرار الاقتصادي.

تقدّم الرئيس ترامب بمبادرته السياسية إدراكًا من إدارته لحجم الضرر الذي لحق بصورة الولايات المتحدة بسبب دعمها اللامحدود لإسرائيل، وما نتج عنه من دمار وقتل ومعاناة إنسانية واسعة للفلسطينيين. بل إن مبادرته أنقذت إسرائيل من نفسها، بعد أن غرقت في حرب إبادة مفتوحة على غزة.

فمن خلال خطابه في شرم الشيخ، حاول ترامب إعادة بناء مشهدٍ أخلاقي لدور الولايات المتحدة، كضامنٍ لأمن إسرائيل لا كشريكٍ في الجرائم التي ارتكبتها.

ولعلّ أسوأ ما نتج عن مبادرة الرئيس ترامب هو عدم تحميل إسرائيل الكلفة المادية والتعويضات عن مسؤوليتها المباشرة في القتل والتدمير وما لحق بالفلسطينيين من أذى.

فقد بدا وكأن هناك بديلًا مستعدًا لتسديد الفاتورة بسخاء، بينما تتنصّل إسرائيل من مسؤوليتها عن الدمار الهائل الذي طال كل جوانب الحياة المادية والبشرية.

كان على المجتمع الدولي أن يفرض على إسرائيل مسؤوليتها الأخلاقية والقانونية عمّا سبّبته من دمار وقتل ونزوح للفلسطينيين.

إن غياب الرؤية السياسية لحل النزاعات، والاكتفاء بإدارتها، يعني أن الدروس والعِبَر من الصراعات السابقة لم تُؤخذ في الحسبان. فدائرة العنف قد تعود بأشكال وأزمنة مختلفة، ما يُدخل المنطقة في دوامة جديدة من إدارة الأزمات بدل حلها، كما حدث في غزة التي كانت المثال الأوضح على ذلك.
قد تكون حرب غزة قد وضعت أوزارها، لكن نيرانها ما زالت مشتعلة في الذاكرة والوجدان. ما بعد شرم الشيخ تبقى الأسئلة الكبرى راسخة حول العدالة والمساءلة والمعنى الحقيقي للأمن. فالعالم الذي يعيد ترتيب مصالحه على أنقاض المأساة، إنما يؤسس لمرحلة جديدة من اللااستقرار الأخلاقي.

إن التحدي الحقيقي اليوم ليس في إدارة الأزمات، بل في منع تكرارها، لأن الأمم التي لا تتعلم من آلامها محكومٌ عليها بأن تعيد إنتاج مآسيها بأشكال مختلفة.

ومن هنا، فإن المشهد الجديد في الشرق الأوسط لن يُقاس بمدى الصمت على الدمار، بل بقدرة الشعوب على أن تجعل من هذا الصمت سؤالًا يطارد الجميع: من سيحمي الإنسان في المرة القادمة؟.