غزة ليست مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل هي الضمير الوطني للأمة، ورمز الإرادة التي لا تنكسر أمام العدوان.
في زمن تهاوت فيه المعايير وتبدلت فيه القيم، تبقى غزة الصوت الأعلى للحق، والمشهد الأصدق لمعنى الصبر والإصرار الوطني.
فهي التي واجهت الحروب والحصار والتجويع، ولم ترفع الرايات البيضاء، بل أثبتت أن إرادة الشعوب أقوى من سلاح المحتل، وأن من يمتلك الوعي والكرامة لا يُهزم.

رسالتنا لغزة هي الوفاء والثبات على الموقف،
ورسالة غزة للعالم هي أن العدالة لا تُختزل في الخطابات، وأن الحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم.

- أولاً: غزة في ميزان القانون الدولي- من الضحية إلى ركيزة للشرعية

وفق أحكام القانون الدولي الإنساني، ولا سيما اتفاقيات جنيف الرابعة لعام 1949، تُعدّ غزة أرضاً محتلة تتحمل فيها قوة الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن حماية المدنيين وتوفير احتياجاتهم الأساسية.
إلا أن ما يجري منذ أكثر من عقد ونصف يشكل نموذجاً للعقاب الجماعي الممنوع دولياً، وانتهاكاً صارخاً للمادة (33) من الاتفاقية التي تحظر استهداف المدنيين أو استخدام الحصار كوسيلة حرب.

تقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية وثّقت جرائم حرب شاملة، من تدمير المستشفيات والمرافق المدنية إلى استخدام التجويع كسلاح، ما يجعل غزة شهادة حية على فشل النظام الدولي في حماية الضحايا ومساءلة الجناة.
غزة بهذا المعنى ليست ضحية فقط، بل صوت القانون الدولي الذي ينادي بتطبيق العدالة ورفض الانتقائية في المواقف.

- ثانياً: البعد السياسي والاستراتيجي- غزة وموازين القوى الإقليمية والدولية

غزة اليوم ليست مجرد ساحة صراع، بل عنصر توازن استراتيجي يفرض نفسه على النظام الإقليمي والدولي.
فمن رحم المعاناة، فرضت غزة معادلة جديدة عنوانها أن الكرامة لا تُشترى ولا تُباع، وأن الشعوب لا تُهزم مهما بلغت شراسة القوة العسكرية.

لقد كشفت الحرب الأخيرة حدود القوة الإسرائيلية، وأظهرت أن المقاومة الشعبية والسياسية والقانونية قادرة على تعطيل مشاريع التفوق والهيمنة.
كما بيّنت أن أمن المنطقة لا يتحقق بالقمع، بل بالعدالة والاستقرار المبني على الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني.

- إقليمياً، بات واضحاً أن استقرار الشرق الأوسط يمر من بوابة غزة، وأن أي تسويات تتجاهلها أو تتجاوز حقوقها محكوم عليها بالفشل.

- دولياً، أثبتت غزة أن الرأي العام العالمي بدأ يتحول نحو دعم الحق الفلسطيني، وأن الصورة المقلوبة التي روّج لها الاحتلال بدأت تتصدع تحت ضغط الوعي الإنساني الحر.

- ثالثاً: رفض الوصاية والتأكيد على وحدة الجغرافيا الوطنية

غزة التي واجهت الاحتلال بصلابة، ترفض اليوم كل أشكال الوصاية الأجنبية أو التجزئة السياسية التي تمس القرار الوطني المستقل.
هي تدرك أن قوة المشروع الوطني الفلسطيني تكمن في وحدته الجغرافية والسياسية بين الضفة وغزة والقدس والشتات، وأن أي محاولات لفرض واقعٍ جديد خارج هذا الإطار تُعد استهدافاً للهوية الوطنية الجامعة.

لقد أثبتت التجربة أن من يسعى لتقسيم غزة عن باقي الجغرافيا الفلسطينية إنما يسعى لضرب جوهر المشروع الوطني.
وغزة، كما عهدناها، ستبقى الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات، والدرع الذي يحمي وحدة الأرض والشعب والمصير.

- رابعاً: البعد الإنساني والأخلاقي- حين تنتصر القيم على القوة

غزة لم تعد مجرد مأساة إنسانية، بل امتحاناً عالمياً لمفهوم الضمير الإنساني.
كيف يمكن للعالم أن يتحدث عن حقوق الإنسان وهو يصمت أمام مجازر تُرتكب على الهواء مباشرة؟
لقد كشفت غزة زيف ادعاءات الحضارة الغربية التي تقيس القيم بموازين المصالح، وأثبتت أن الإنسانية لا تُقاس بالتصريحات، بل بالمواقف.

إن ما يجري في غزة هو صراع بين منطق القوة ومنطق العدالة. وفي كل مرة ينهار فيها الصمت الدولي، تنهض غزة لتُعيد تعريف معنى الشجاعة والمقاومة، وتُعلّم العالم أن الحق لا يموت ما دام خلفه من يؤمن به.

- خامساً: غزة التي لم ترفع الرايات البيضاء

غزة التي نزفت ولم تنكسر، قاومت بالكرامة قبل السلاح، وبالصبر قبل البيانات. لم ترفع الرايات البيضاء، لأنها مؤمنة بأن الاستسلام خيانة لتاريخها ودماء شهدائها. تحملت الحصار، وتجاوزت الانقسام، وواجهت العدوان بروح وطنية جامعة.

اليوم، وهي تلملم الجراح وتعيد بناء ما تهدم، تُعلن للعالم أن الشعب الفلسطيني لا يُهزم بالدمار، بل يزداد قوة وإصراراً على النصر.
غزة تبقى عنوان الصمود، والعاصمة المعنوية للمقاومة الوطنية، التي تُبقي القضية الفلسطينية حيّة في وجدان الأمة والضمير الإنساني.

- سادساً: غزة تتمسك بالشرعية الوطنية ووحدانية التمثيل الفلسطيني

غزة التي صمدت في وجه العدوان وأفشلت محاولات التفتيت، تؤكد تمسكها بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره على أرضه، وهو حق أصيل لا يسقط بالتقادم، كرّسته قرارات الأمم المتحدة، وفي مقدمتها القرار (3236) لعام 1974 الذي أكد حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والعودة وتقرير المصير.

كما تؤكد غزة أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، والإطار الجامع الذي يُجسد وحدة التمثيل على قاعدة التعددية السياسية والشراكة الوطنية.
ذلك هو النهج الذي يصون القرار الوطني المستقل ويحميه من محاولات الوصاية والتدخل الخارجي.

إن الانتصار للحق الفلسطيني هو انتصار لمبدأ تقرير المصير الذي يشكل أحد أعمدة القانون الدولي العام، وغزة، بإصرارها وتمسكها بشرعيتها الوطنية، تذكّر العالم بأن الدفاع عن العدالة في فلسطين هو دفاع عن جوهر النظام الدولي القائم على المساواة بين الشعوب واحترام سيادتها.

- سابعاً: رسالة غزة للعرب والعالم

إلى العرب تقول غزة: "لسنا عبئاً على الأمة، نحن جزء من كرامتها وهويتها". وإلى العالم تقول: "نحن أصحاب حق لا نطلب شفقة، بل نطالب بعدالة تكفلها القوانين الدولية".

على الدول العربية أن تُعيد تعريف أمنها القومي بالارتباط مع أمن فلسطين، وأن تُترجم مواقفها السياسية إلى خطوات عملية تُنهي الحصار وتدعم صمود الفلسطينيين.
أما المجتمع الدولي، فعليه أن يثبت أن القانون لا يُطبق انتقائياً، وأن العدالة لا تُفرّق بين ضحية وضحية.

غزة ليست عبئاً سياسياً، بل محرار أخلاقي للعالم، واختبار دائم لمدى صدق الالتزام بالمبادئ الإنسانية التي يتغنّى بها الجميع.

- خاتمة: غزة تلملم الجراح وتصون البوصلة الوطنية

غزة اليوم، وهي تُضمد جراحها بيدٍ وتبني مستقبلها بيدٍ أخرى، تُثبت أن الإرادة الوطنية أقوى من العدوان، وأن الشعوب الحرة لا تُقهر مهما طال الليل.
من تحت الركام تولد الرسالة، ومن وسط الدمار ينهض الوعي.

غزة، التي لم ترفع الرايات البيضاء، ستبقى الصخرة التي تتحطم عليها كل المؤامرات، والضمير الذي يذكّر العالم بأن الحق الفلسطيني لا يموت، وإن طال الزمان.
إن الانتصار لغزة هو انتصار للإنسانية جمعاء، وانتصار لقيم العدالة وحق الشعوب في الحرية وتقرير المصير.
غزة العزة، تبقى بوصلة الحق، ورمز الكرامة، وجدار الصمود الذي يحمي الهوية الفلسطينية من الضياع.