من المؤكد أن السياسة تلعب دوراً مقرِّراً في منح جائزة نوبل للسلام للإنسان أو للمجموعة البشرية التي دافعت عن السلام، ودفعت ثمناً باهظاً من دمها ودم أبنائها ذوداً عن الحرية والاستقلال، وسعياً لبناء ركائز التسامح والتآخي والعيش المشترك بين الشعوب، وترسيخ أسس العدالة بين بني الإنسان في دولة أو إقليم محدد.
لكن يبدو أن القائمين على جائزة نوبل للسلام قد حادوا عن الأسس الناظمة لمنح الجائزة لمستحقيها، كما أراد مؤسسها وصاحبها السويدي ألفرد نوبل، الذي أنشأها تعويضاً وتكفيراً عن خطيئته باختراع الديناميت. وتُمنح الجائزة سنوياً في العاشر من كانون الأول/ديسمبر، في ذكرى وفاة المخترع السويدي، ويُعلن عادةً عن الفائز في العاشر من تشرين الأول/أكتوبر، أي قبل شهرين من تسليمها.
شهد عام 2025 جدلاً واسعاً حول الشخص أو الجهة التي تستحق الجائزة. وكان للرئيس دونالد ترمب نصيب كبير من هذا الجدل، إذ كان مسكوناً بهاجس الحصول عليها، وأطلق عشرات التصريحات عن "أحقيته" بها، مدّعياً أنه أوقف سبع حروب في العالم، وأنه سيتابع جهوده لوقف الحرب على الجبهة الروسية – الأوكرانية. وقد رُشِّح من قِبل بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الصادر بحقه أمر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، كما رُشِّح أيضاً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغيرهما.
لكن اللجنة المقرِّرة أسقطت ترشحه، ومنحت الجائزة لامرأة لا تقلّ إجراماً وعداءً للسلام، وكان يفترض أن تصدر بحقها مذكرة اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية أسوةً بحليفها نتنياهو، لا أن تُمنح جائزة نوبل. فقرار منحها الجائزة يُعدّ عاراً على من صادق عليه، ويعكس انكفاءً واضحاً عن مبادئ السلام، إذ غلّب القائمون على الجائزة خلفياتهم الفكرية والسياسية اليمينية المناهضة للسلام، واتسم موقفهم بالنفاق الأخلاقي، وتساوقهم مع نهج الإرهاب والعنف والحروب.
إن الموقف من ماريا كورينا تشادو، أحد أقطاب المعارضة الفنزويلية، ليس شخصياً، ولا لأنها حليفة لإسرائيل التي وصفت حربها الإبادية ضد الشعب الفلسطيني بأنها "حرب على الإرهاب"، ولا لتشابه تجربتها مع قيادات إسرائيلية مثل نتنياهو، ولا لاعتبارها إسرائيل "نموذجاً للديمقراطية" في الشرق الأوسط، ولا لتوقيعها اتفاقية تعاون بين حزبها "فينتي فنزويلا" وحزب "الليكود" عام 2020، بل لأنها طالبت نتنياهو بالتدخل المباشر في بلادها لإسقاط نظام الرئيس نيكولاس مادورو المنتخب بأغلبية من الشعب الفنزويلي.
ولدى تشادو سجلّ طويل في الترويج لأعمال العنف والتحريض على الانقلاب على النظام الشرعي، ونهجها يعادي الديمقراطية ويدعو للحرب. كما نادت مراراً بإشعال نيران الحرب الأهلية في فنزويلا، وهو موقف تتبناه منذ انتصار الثورة البوليفارية عام 1999. وقد شاركت بقوة في محاولة الانقلاب على النظام السياسي بقيادة الرئيس الراحل هوغو تشافيز في نيسان/أبريل 2002، ودعمت الحكومة غير الشرعية التي أعلنها رجل الأعمال بيدرو إستانغا. وهي تمثل صوت الطبقة الأوليغارشية الفنزويلية، وتنتمي إلى أسرة كانت تملك صناعة الفولاذ في البلاد قبل أن تشتريها الدولة عام 2010.
لم تكتفِ تشادو بمطالبة نتنياهو بالتدخل في بلادها، بل طالبت أيضاً الولايات المتحدة بتدخل عسكري في فنزويلا، إضافةً إلى العديد من الممارسات والانتهاكات الخطيرة التي شاركت فيها أو قادتها، مما مسَّ بسيادة واستقلال بلادها.
إن مثل هذا الشخص لا يجوز ترشيحه، أو حتى إدراجه في قائمة المتنافسين على الجائزة من حيث المبدأ، لأنها هددت السلم الأهلي في فنزويلا، وعملت بكل الوسائل على تمزيق وحدة البلاد. كما أن سياساتها الداعمة للإرهاب شكّلت خطراً دائماً على الديمقراطية منذ بروزها في المشهد السياسي الفنزويلي.
لقد ارتكبت لجنة نوبل للسلام خطأً فادحاً بمنحها الجائزة لشخصية كهذه، في حين كان الأجدر أن تُمنح لأبناء الشعب العربي الفلسطيني، ولا سيما الأطفال والنساء الذين دفعوا ثمناً باهظاً جراء الإبادة الجماعية الإسرائيلية، أو لقضاة محكمة العدل الدولية، أو قضاة المحكمة الجنائية الدولية الذين تمثّلوا روح القانون الدولي، وانحازوا للعدالة والقانون الإنساني في أحكامهم.
فقد أصدر هؤلاء القضاة استشارات وأحكاماً وصفت دولة إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، وأكدت حق هذا الشعب في نيل حريته واستقلاله وسيادته على أرض دولته ضمن حدود الرابع من حزيران/يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إضافةً إلى إصدار مذكرتي اعتقال بحق بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، دون أن يخضعوا لابتزاز الإدارة الأميركية أو غيرها من الدول الداعمة لإسرائيل.
كان الأجدر بلجنة نوبل أن تمنح الجائزة لهؤلاء أو لأيٍّ من الشعوب أو المؤسسات أو الأفراد الذين دافعوا عن حرية الإنسان وكرامته، وساندوا التعايش السلمي، وساهموا- بقدر ما أتيح لهم- في بناء منظومة عالمية أكثر عدلاً.
لكن اللجنة وقعت أسيرةً للضغوط والحسابات الشخصية والنفعية الضيقة، بمنحها الجائزة الأهم دولياً لامرأة ليست أهلاً لها، وهذا عار عليها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها