المعيار الأخلاقي والوطني اليوم: لمن يريد أن يتبوأ قيادة الشعب الفلسطيني ويكون رافعة له ويقوده إلى الانتصار؟ هنا اليوم لا مكان للتجارب. أكتب هذا المقال بسبب الجدل القائم والانشغال الذي لا يقدم فائدة الآن، بعد توقف إطلاق النار في غزة؛ لدينا ما يكفي من تحديات صعبة تهدم الجبال الرواسي. لكن أن يبقى شعبنا يواجه قدره في ما فُرض عليه من إرادات وضعت الفلسطينيين في مأزق- أيُّ مأزقٍ- فهذا وضع لا يعلمه إلا الله. لا موقع للمهاترات ولا للخطابات الجوفاء؛ نحن نريد من يقدر أن يشارك في تخطي الأزمات التي تتربع فوق صدورنا.
الشعب الفلسطيني بقيادته استطاع أن يناوى عن الكثير من الأمور وصغارها، ولو مُدت الجسور لتوحيد الجهود لتخطّينا كل الصعاب. لكن قدرنا أن مصيبتنا أحيانًا في أنفسنا.
حركة حماس وفصائل فلسطينية أخرى مكوَّنة من مكونات المجتمع الفلسطيني؛ انطلقت في الانتفاضة الأولى سنة 1987 وشاركت في العمل الوطني على أساس أنها أحد مكونات المشهد، منفردة عن القيادة الوطنية الموحدة. انتهت تلك المرحلة النضالية بالدخول في عملية أوسلو بعد مؤتمر مدريد. رفضت حركة حماس حينها المشاركة في العملية السياسية واعتبرت أوسلو، كما عبّرت بعض أطراف أخرى، خيانة كبرى.
عند التشكيل الوزاري عرض ياسر عرفات—رحمه الله—على حركة حماس المشاركة فرفضت، ثم شارك بعض أفراد من الحركة بشكل مستقل، وكان من بينهم الراحل طلال سدر والوزير عماد الفالوجي. في الانتخابات التشريعية عام 2006 شاركت حماس بعد ضغوط إقليمية ودولية، وكان ذلك مطلبًا فلسطينيًا أيضًا. رغم أن القوانين كانت تضع قيودًا على المشاركين الذين لا يعترفون بإسرائيل والاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير، فإن الحركة خاضت الانتخابات وفازت.
بعد ذلك فُرض حصار على الشعب الفلسطيني، ولم تتمكن الجهات الإدارية من تقديم الخدمات المطلوبة بالشكل الكافي. تحولت التجربة إلى انقسام عملي، وأسهم ذلك في حصر أداء الحركة في قطاع غزة. أدت ظروف الحكم إلى تدهور اقتصادي وزراعي وصناعي واجتماعي حاد، فأصبحت غزة تعتمد بشكل كبير على المساعدات الإنسانية. وفي ظل الانقسام نشطت التجارة غير الرسمية عبر الأنفاق مع مصر، وتوطدت علاقات مع بعض دول إقليمية، حتى باتت لغزة بعدٌ إقليمي نتيجة هذه العلاقات.
وصلت الأمور إلى هجوم 7 أكتوبر 2023، فشهدت غزة حربًا غير مسبوقة على المدنيين أدت إلى دمار واسع ومجزرة كبرى بالشعب الفلسطيني. بحسب تقديرات أولية، استُشهد نحو 11% من سكان غزة، وفرضت الحرب ظروف مجاعة وتعرّضت منظومات الأمن الغذائي والصحي والمائي للتدمير والحرمان من سبل الحياة. بعد عامين من الحرب على المدنيين بذريعة تحرير الرهائن، لم يبق لشعب غزة الكثير.
توقفت الحرب جزئيًا بفعل تضافر جهود إقليمية ودولية وضغط الشارع العالمي الذي هبّ لنصرة الشعب الفلسطيني. لم يطيق العالم أن يرى إبادةً وجوعًا وحرمانًا بهذا الحجم في القرن الحادي والعشرين. لعبت مواقف دول عربية ودولية دورًا في دفع عملية التهدئة، وكان لطلبات وشروط زعماء عالميين أثرها، بما في ذلك رغبة بعض القادة في الحصول على إشادة دولية أو جوائز سلام.
الدرس كان قاسيًا بكل ما يحمل من معانٍ؛ تجرع الشعب الفلسطيني مرارته في غزة بشكل خاص، وامتد أثره إلى الفلسطينيين خارج غزة، سواء في الضفة الغربية أو في المنافي. الشعب الفلسطيني شعب صامد يرفض الذل والخنوع، لكن "حسابات السرايا ليست كحسابات القرى"- لكل فعل حساباته. من يخطئ عليه أن يدفع الثمن شخصيًا، أما ما يتعلق بحسابات قد تقود الشعب إلى مصير محتم فله حسابات أوسع، وعلى من اتسعت حساباته الضيقة أن يتحمّل مسؤولية ما فعل.
الأمر الشخصي يبقى في حدود أصحابه، أما ما يتعلق بالعموم وجرّ الشعب الفلسطيني إلى مصير محتوم فله حساباته التي يجب أن يتحمّل مسؤوليتها أصحاب القرار. بعض الأخطاء يمكن تجاوزها، أما بعضها الآخر فلا يُتجاوز. والثمن لا بد أن يُدفع.
من يستطيع أن يكون رافعة للشعب الفلسطيني، من يقدم الحماية للمدنيين، ومن يجنب الشعب الفلسطيني الويلات، ومن له الكفاية الإدارية والشفافية المالية- في تقدّم المشهد؛ ومن لا يستطيع فليتوارى عنه، وفهمكم كفاية.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها