ما يدور في الضفة الغربية من ارتفاع في وتيرة العنف من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بشقَّيْه المستوطنين والجيش، لا يلفت أنظار العالم، إذ كانت الأنظار متجهة إلى غزة بسبب الحرب التي أحدثت خسائر فادحة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وحجم الدمار الذي سبَّبته الآلة العسكرية الإسرائيلية.

وتفيد التقارير بأن حجم القنابل والصواريخ والمتفجرات التي أُلقيت على غزة يعادل ست قنابل نووية، بحجم وقوة القنبلة التي أُلقيت على هيروشيما وناغازاكي في اليابان.

وبعد مرور عامين على هذه المقتلة، اتفق العالم على ضرورة إنهاء الحرب في غزة، فأخرج الرئيس ترامب مبادرته لإنهاء الحرب هناك، وحظيت بموافقة جميع الأطراف.

الحرب في غزة أوشكت على الوصول إلى نهايتها، وستبدأ غزة مرحلة جديدة يُفترض أن يحلّ معها السلام على الناس وتنتهي تلك الأزمة الإنسانية فيها.

لكن في الضفة الغربية، يحاول الاحتلال أن يمضي قدمًا لتحقيق أهدافه من خلال الضمّ الزاحف للاستيطان، تاركًا المستوطنين والجيش الإسرائيلي للقيام بهذه المهمة.

إنها سياسة خنق الفلسطينيين اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، يتصوّر الاحتلال من خلالها أنه سيتمكن من إرهاب الفلسطينيين وتهجيرهم ليحلّ محلهم المستوطنون.

دائرة العمل الاستيطاني وعمليات الجيش في الضفة تعمل على مدار الساعة. هجمات المستوطنين وعنفهم باتت لا تتوقف أبدًا؛ هجوم مستمر ومدعوم من الجيش الإسرائيلي، تارة باستعمال الأسلحة النارية، وتارة أخرى بالهجوم على التجمعات السكانية دون أي اعتبار لأي مسلكيات. المهم استمرار الهجمات ومنع الناس من مزاولة أعمالهم في الزراعة والرعي وشؤونهم الأخرى.

المستوطنون يهاجمون الأرياف والتجمعات السكانية، والجيش يهاجم المدن الفلسطينية ويعيث فيها فسادًا بحجج أمنية تارة، وبملاحقة مطاردين تارة أخرى، وأخرى بالإعلان عن اكتشاف مصانع أسلحة أو صواريخ، عبر خلق فزّاعات أمنية وهمية. ذرائع متعددة تُستخدم لإبقاء الحركة والسيطرة الأمنية دائمة بحجج مختلفة.

وهذا يعني بكل ما تعنيه الكلمة من معنى أن مسرح العمليات الإسرائيلية يعمل بقوة في الضفة الغربية الآن، ولكن دون لفت الأنظار، إذ إن زخم التعاطف العالمي كان موجّهًا صوب غزة، بينما تسعى إسرائيل لإحداث التغيير في الضفة وهندسة الواقع وفق مخططاتها في "الشرق الأوسط الجديد".

بالأمس، شنّ المستوطنون عمليات في معظم أنحاء الضفة، من مسافر يطا جنوبًا في الزويدين وشعب البطم، حيث شارك الجيش أثناء هجوم المستوطنين في حصار القرية واعتقل عددًا من الفلسطينيين بسبب تصديهم لتلك الهجمات.

وفي نابلس، هاجم المستوطنون قرية قصرة وأطلقوا النار على شبان القرية لمنع المزارعين من قطف محصول الزيتون في هذا الموسم.

الاعتداءات على المزارعين الفلسطينيين في موسم حصاد الزيتون نموذج متكرر منذ سنوات طويلة، حيث يتم الاستيلاء على الحصاد وطرد الفلسطينيين من أراضيهم لمنعهم من متابعة أعمالهم الزراعية.

يتدخل المستوطنون على الأرض فينشئون بؤرًا استيطانية جديدة، ويشنّون اعتداءات متكررة على السكان وممتلكاتهم، مما يخلق واقعًا قسريًا يدفع نحو تهجير الفلسطينيين.

وهكذا تُنفّذ مخططات التوسع الاستيطاني تحت غطاء قانوني مزعوم، وإجراءات عسكرية محمية، وسلوك استيطاني عنيف، ما يجعل هذه الممارسات جزءًا من سياسة ممنهجة هدفها السيطرة الكاملة على الأرض وتفريغها من سكانها الأصليين.

من جانب آخر، يقيم الجيش الإسرائيلي حواجزه في الضفة الغربية بهدف إعاقة حركة المواطنين.

فقد بلغت الحواجز فيها أكثر من ألف حاجز تنتشر في جميع مداخل المدن والبلدات والمخارج الفلسطينية، ما يؤدي إلى أزمات اقتصادية واجتماعية وسياسية متفاقمة.

كما استخدمت قوات الاحتلال أوامر إخلاء الأراضي تارة بذريعة الأغراض العسكرية، وتارة لإقامة منطقة عازلة على حدود جدار الضم، وكل ذلك على حساب أملاك الفلسطينيين.

كما أعلن الاحتلال عن "المحميات الطبيعية" وأوامر الاستملاك العسكري ومشاريع الطرق وغيرها من أجل إكمال الهيمنة وتفريغ منطقة "ج" من سكانها الفلسطينيين، تمهيدًا لتكريس خطة الضم فعليًا.

إنها حرب لا هوادة فيها في الضفة الغربية، فيها تقاسم وظيفي بين المستوطنين والجيش الإسرائيلي ضمن خطة الضم الزاحف.

ويتم هذا التقاسم الوظيفي المدعوم بموازنات ضخمة من الحكومة الإسرائيلية في إطار سياسات هندسة الديموغرافيا الفلسطينية في الشرق الأوسط الجديد.

أما عامل الوقت، فلا يشكّل عائقًا في الحسابات الإسرائيلية، إذ تمضي في مخططاتها حتى تحين اللحظة المناسبة لإحداث التغيير المطلوب.

أقدمت سلطات الاحتلال في القدس والخليل على عمليات تطهير عرقي تخالف القانون الدولي، واستولت على مناطق في وسط المدينتين لأغراض استيطانية، وأنشأت فيها أحياء يهودية، حيث أُحِلّ المستوطنون فيها بدل السكان الأصليين.

أما المشاريع الاستيطانية فهي قائمة على قدم وساق منذ احتلال الضفة الغربية، بهدف منع أي تواصل جغرافي بين المدن الفلسطينية يؤدي إلى قيام دولة مستقلة على الأراضي الفلسطينية.

هناك مستوطنات ذات أغراض أمنية، مثل تلك التي أُقيمت في الأغوار، وأخرى اقتصادية تُقام عليها منشآت زراعية وصناعية، فُتح المجال أمام الاستثمار الدولي فيها.

الذرائع التي يطرحها الاحتلال، أياً كانت، هي مجرد أدوات لسياسات تهدف إلى تغيير الديموغرافيا الفلسطينية عبر التهجير القسري للشعب الفلسطيني.

وإذا لم تتوقف هذه الحالة، فإن الشعب الفلسطيني يتعرض فعليًا لنكبة جديدة في الضفة الغربية بعد النكبة التي حدثت في غزة.

إن معركة الصمود على هذه الأرض قائمة في الوعي الفلسطيني، وإحداث التغيير ليس سهلًا، لكن لا بد من إدراك أن المدنيين الفلسطينيين اليوم يواجهون سياسات احتلالية ينفذها الجيش الإسرائيلي والمستوطنون، وتحتاج إلى إسناد حقيقي لوقف هذا النزيف الاحتلالي بجهد إقليمي ودولي.

ليس فقط أن تُطالَب إسرائيل بوقف الضم، بل يجب أن ينتهي الاحتلال نفسه عن الضفة الغربية لوقف دوامة العنف الاحتلالي.

وبينما تتجه الأنظار إلى غزة بعد أن هدأت فوهة الحرب هناك، يتصاعد في الضفة الغربية بركان لم تهدأ حممه بعد. فالاحتلال لا يعرف نهاية للأزمات، بل يبدّل ساحاتها ويعيد إنتاجها بأشكال جديدة.

وإذا كان العالم قد توافق على وقف الحرب في غزة، وكأن الاحتلال يدير أزماته لا لينهيها، بل ليجدّدها في كل مكان، فعلى العالم الآن أن يدرك تمامًا أن الضفة الغربية جبهة لا تقل اشتعالًا، وأن السلام لا يمكن أن يكون انتقائيًا أو جزئيًا أو قابلًا للتجزئة بين غزة والضفة، فالقضية واحدة والاحتلال واحد، للحفاظ على ما تبقّى من العدالة الإنسانية التي خطّ مسارها أحرار العالم لوقف الحرب في غزة وردع الاحتلال أينما كان أو سيكون.